25‏/06‏/2008


العولمة أم استعمار الأرض؟


أبو يعرب المرزوقي


العولمة أم استعمار الأرض؟

تمهيد:

حددت ورقة الندوة المطلوب من علاج مسألة العولمة[1]. ففصلته إلى تحرير المفهوم واستعراض الآراء السائدة ومتابعة تاريخها في الأذهان وتاريخ موضوعها في الأعيان سواء سلم الباحث بجدتهما

أو بعدم جدتهما مع الموازنة بين وجهيها الخير والشرير. وهذا من جوهر العلاج الوصفي لكل تدرج معرفي حول أي ظاهرة ومنطق المدارس التي حاولت تأويلها وتعليلها مع شيء من تاريخها الفعلي

ومحاولة ترتيب المقومات الواقعية التي مثلت موضوع التأويل والتعليل. والمعلوم أنه لا يختلف اثنان في ضرورة هذا التمشي. لكن العلاج ينبغي أن يتجاوز الوصف المجرد لما يقال في الظاهرة ولما

فيها فيطلب المبدأ العام الذي يمكن من إرجاع مقوماتها وأعراضها إلى بنية عميقة تبرز العلاقات المنطقية بينها لئلا تبدو مجرد صدف تاريخية فيكتشف منها النظام الباطن:

1-فتاريخ النظرية فيه مستويان: أ-نظرية العولمة كما تجري في الأذهان لها أو عليها ب-حول العولمة كما تجري في الأعيان عند فاعليها والمنفعلين بها.

2-وتاريخ الظاهرة فيه مستويان كذلك: أ-آثار العولمة السياسية والاقتصادية الموجب منها والسالب ب-وآثار العولمة التربوية والثقافية الموجب منها والسالب كذلك.

والمعلوم أن كلا التاريخين بمستوييه متصل بالثاني ومتفاعل معه تفاعلا قد يكون فهمُ منطقه بدايةَ الإمساك بأصل المقومات التي تتألف منها ظاهرة العولمة والأعراض التي تترتب عليها. ولن نخالف المعهود في هذا المستوى من العلاج ليس لأن ذلك هو المطلوب فحسب بل لأنه هو المدخل الذي يمهد لدراسة المسألة في مستوى ثان يمكن أن نطلق عليه اسم التأويل الفلسفي لأعماق ظاهرة العولمة أعماقها الوجودية بعد التحليل الوصفي لأعراضها: فهي عندنا بخيرها وشرها ليست إلا ظاهرةَ سطحٍ لأمر أعمق منها يوجد وراءها هو ما سنحاول تحديد طبيعته.

لذلك فلسنا ننوي إضافة مستوى ثان للعلاج لمجرد الاستطراد أو الإسهاب في القول بل لأن فهمها بمنطق المقابلة بين الخير والشر حتى وإن حدد المواقف فإنه لا يعلل أي المواقف يؤدي دور التحرير من الامبريالية وأيها يودي إلى توطيد العبودية[2] ما لم نحدد علة وجودها أولا وعلة كونها بالصفات التي هي عليها ثانيا ودلالة ذلك كله في الوجود الإنساني: لذلك كان عنوان محاولتنا خيارا تساؤليا بين تسميتين ممكنتين للظاهرة: عولمة أم استعمار الأرض.

فإذا أطلقنا على المستوى الأول من العلاج اسم العلاج التحليلي لظاهرة العولمة كما ترد في الأدبيات "السياسية-الاقتصادية" أو "الاجتماعية-الثقافية" أو فيهما معا وأطلقنا على المستوى الثاني من العلاج اسم العلاج التأويلي لما وراءها الذي تعد العولمة من مفاعيله السطحية في فلسفة التاريخ وفلسفة الدين (=كيف يتصور الإنسان نفسه وعلاقته بالمطلق؟) أصبح من البديهي أن نقدم عليهما مدخلا تمهيديا نعلل فيه التمييز بين مستويي العلاج والحاجة إلى عدم الاقتصار على أحدهما دون الآخر. ذلك أننا ما كنا لنحتاج إلى النوع الثاني من العلاج لو لم يكن مستوى الكلام الأول في العولمة يؤول في الغاية إلى طريق مسدودة ما لم نحسم مسألة مجراها ما الحتمي فيه وما الاختياري منه.

فإذا كانت العولمة مشروعا قصديا وإراديا آل مرجعها إلى الإرادي من أفعال البشر ومن ثم فهي تنتج عن صفات خلقية فيهم خيرة أو شريرة فتكفي الموازنة بين الوجهين والتسوق لنشتري ما نشتهي منها ويغدو الجميع بما لديهم فرحين. والكلام عندئذ يكون كله ذا سجل خلقي يدور حول كيفيات تنمية الوجوه الخيرة منها بتنميتها وتطويرها ومعارضة الشر فيها بأفعال من جنس الثورة الرومانسية على شرور العولمة. ومثاله دون شك الاحتجاج الموازي لقمم البلاد التي ينسب إليها شرورها (اجتماع الثمانية الكبار) على أهميته من حيث الدلالة على الوعي الخلقي لبعض أهل العصر.

أما إذا كان الغالب على العولمة هو طابع المجرى Process الحتمي فلا يكاد الاختياري فيها يذكر لم يكن للاحتجاج الخلقي عليه من سبيل فضلا عن قابلية الاحتجاج إلى الانقلاب ردَّ فعلٍ إرهابيٍ عند فراغ الصبر. وقد يبين التأويل الفلسفي أنها في غياب الفهم الاستراتيجي لكيفيات العلاج كما هي الحال عندنا نحن العرب والمسلمين[3] تبقى العولمة آلية جهنمية تسحق أصحاب المواقف الرومانسية فتؤول بهم في الغاية إلى اليأس من الفهم فضلا عن الحل ليصبحوا من القائلين ب"داوني بالتي هي الداء" كما عبر عن ذلك أبو القاسم الشابي في صرخته الشهيرة:

لا عدل إلا إذا تعادلت القوى ***** وتصادم الإرهاب بالإرهاب

فاليأس من العلاج السلمي والاحتجاج الخلقي هو الأصل الحقيقي لكل ما يوصف بالسلوك الإرهابي عند المنفعلين في التاريخ الإنساني كله تعريفا لهم من الفاعلين فيه فضلا عن سذاجة العلاج الذي من هذا الجنس. وذلك هو المعنى الرومانسي لصرخة شاعر العرب الخالد رغم ما يبدو فيها من كلام عن الإرهاب. وإن هو إلا حمم شعري. فهو لا يغوص إلى عمق الظاهرة بل يعبر عن رد الفعل العفوي عليها كما يحصل عند كل الغاضبين أو من يسمون بالمقاومين والمتصدين بما اتفق من الوسائل الموجودة فتكون النتيجة أفغنة الوطن العربي وصوملته ليصول فيه سادة الحرب من الأمراء ويجول معهم مشعوذوهم من الفقهاء.

لذلك فالسؤال يصبح في المستوى الثاني من العلاج: علامَ يدل اليأس من العلاج السلمي بالاحتجاج الخلقي على العولمة؟ ولِمَ ينقلب التعبير عن الغضب بالاحتجاج السلمي إلى رد الفعل الذي يصفه مصدرُ الداء بالإرهاب ؟ أليس ذلك دالا على عدم فهم المنطق العميق الذي يولد الظاهرات التي من جنس ما يُعتبر شرور العولمة فلا يكون إلا سلوكا عفويا احتجبت عنه عللُ الداء فغاب الدواء ؟ ومجمل القول وزبدته: أليس كلام العرب والمسلمين على العولمة كلام الشكوى دليلا على انعدام الإستراتيجية الموجبة التي تعيد إليهم الفاعلية المؤثرة قياسا على ما فعلت أوروبا مثلا فتراهم ينكصون إلى القبيلة دون القومية فضلا عما يتعالى على القوميات فيكونَ في حجم الرهانات ؟

لذلك فقد بات من الضرورى أن ننظر في الأمر من مدخل آخر يتجاوز العلاج الوصفي التقليدي. وهذا المدخل الثاني لن يكتفي بالمراجع التقليدية بل هو سيطلب الفهم من فلسفة التاريخ في علاقتها بفلسفة الدين فيعمد إلى عملية تأصيل قسمها الأول فلسفي عام والثاني قد لا يعجب أغلب المثقفين العرب وخاصة من تياسر منهم عبادةً للمساواة ثم تيامن عشقاً للحرية لأنه فلسفي خاص. إنها عملية تأصيل يُتهم العائد إلى مصادرها بالماضوية لأنها عربية إسلامية[4] رغم أن العودة إلى ما قبل ما قبلها بألفي سنة مثلا يسمى بداية النهضة الغربية وشرط كل استئناف في لحظاتها الحرجة[5]. فتصبح المسائل التي نعالجها أربعا على النحو التالي:

1-أولاها تعليل الحاجة إلى مستوى العلاج الثاني.

2- وثانيتها عرض وتحليل وصفي وجيز وذلك هو مستوى العلاج الأول.

3-وثالثتها عرض وتأويل لعلاقة المسألة بفلسفة التاريخ وفلسفة الدين عامة.

4- وأخرتها عرض وتأويل لنفس العلاقة عند العرب والمسلمين خاصة.

المسألة الأولى

تعليل الحاجة إلى مستوى العلاج الثاني

قل أن تجد ظاهرة إنسانية لا يتلازم فيها الوجهان اللذان يتجلي فيهما ازدواج الوجود الإنساني من حيث هو إنساني: تجليه من حيث هو حدث بخصائص الطبائع وتجليه من حيث هو حديث[6] بخصائص الرموز. فقد يتوالى الوجهان وقد يتساوقان في مجرى الحِدْثان[7]. لكنهما متلازمان دائما ولا ينفصلان. فما أن يحصل أحدُهما حتى نطلب الثاني. ذلك أن الإنسان يبدع الحضارة الرمزية إذ ينسج الحدثَ بهندام فني يُؤَسْطِرُهُ. وهو يصنع الحضارة المادية إذ يزرد الحديثَ بنسق علمي يُتَقْنِنُهُ. فتتساوق عنده الترجمةُ المتبادلة أو تتوالى بين الفعل المتعين في الأحداث والأفعال والوعي المتعين في الأحاديث والأقوال إلى غير غاية مادتين أحدهما للآخر وصورتين بالتناوب: وتلك هي الدورة الحضارية المبدعة لذاتها فعلاً يتوعَّى ووعياً يتفعَّل.

وهذان الوجهان هما علة ازدواج معنى "التاريخ-التأريخ" في جل اللغات كما نفعل إذ نترك الهمز للحدث أو نهمز للحديث: فهو حدث Geschichte وحديثHistorie . والعرب جمعت بينهما في أصل يوحد بينهما تسميه ديوانها أعني الأدب عامة والشعر خاصة حتى إن ابن خلدون الذي يدرك الأعماق جعله غاية نظريته التكوينية في الظاهرة العمرانية[8]. ويشترك الأمران في الحدوث أو التجدد الدائم الذي هو علة التلازم بين تجربة الحال[9] و معاناة الخيال[10]. ولولاهما لما تعالى الإنسان ليصير وجوده عين السؤال حول مراحل النزول والترحال (بداية علم التاريخ) وحول رمز المبدأ والمآل (بداية علم الأساطير)[11]. ذلك أنه ليس لأي منهما معنى بمعزل عن ضدِيدِه الذي هو في الحقيقة نَدِيدُه. فحال الحدث وخيال الحديث يتجردان فيتعاليان ليسقط المضاف إليه منهما ويبقى التفاعل بين المضاف فيهما أعني جوهر الوعي التاريخي ومادته من حيث هما أفق السؤال الوجودي الذي يعبر عن التلاحم بين المضافين: ممكنُ الإنسان ومُحاله في واقعه ومخياله حول أفق تِسْآلِهِ: وتلك هي الصلة الجوهرية بين فلسفة التاريخ وفلسفة الدين الصلة التي تُعد العولمةُ أحدَ أعراضها.

ومن هذا الأفق ينبغي أن تفهم العولمة إذا كنا نريد أن نكتشف علل تعثر العرب والمسلمين فيها إذا كان هذا هو القصد من إدراج المسألة بين محاور الندوة. ومعنى ذلك أن العولمة باتت الآن وقبل كل شيء-عند الجميع وليس عندنا وحدنا-توليفة تاريخية تلاحَمَ فيها معلومُ المسير ومجهولُ المصير فتقدم الافتراضيُ والرمزيُ منهما على الحقيقي والفعلي ليُخْفِيَ بما يشبه الدوار مفاعيل الاستعمار في كل الديار حيث زالت الحدود فاختلط الأهل والأغيار: مفاعيل العولمة ليست بين الدول والأمم فحسب بل هي في الدول والأمم كذلك.

وهي ليست من مجال العلاقات الدولية والأممية مقصورةً عليها بل هي تمتد من قلب أدنى جماعة محلية إلى أقصى الجماعة البشرية بل هي قد استقرت حتى في ضمائر الأفراد واستحوذت منها على الشوق والفؤاد. وهذه الخاصية التي تتميز بها الظاهرات الإنسانية هي جوهر العولمة لأن الإنسانية تبدو فيها قد بلغت تجربتُها غايةَ الكلية ومعاناتُها غايةَ العينية في كل خاصية وجزئية[12]. فبات من الواجب أن نفهم:

1- حدث العولمة ما هو وكيف حصل؟

2- وحديث العولمة ما دلالته وكيف وصل؟

كيف حصل الأول وكيف وصل الثاني بصورة عامة وعندنا خاصة لأن الشعوب لا يصنعها التاريخ بأحداثه فحسب بل هو يصنعها بأحاديثه خلال حدوث الحدث والحديث. فهل كان الحدث تحاصلا (=أي مشاركة في التحصيل) وهل كان الحديث تواصلا (=أي مشاركة في الاتصال) أم إن مجرى العولمة خلا حدوثها من التحاصل وحديثها من التواصل فانقسمت البشرية إلى من يعيشها ويعيرها من موقع الفاعل متجاهلا رؤية المنفعل ورأيه ومن يعيشها ويعيرها من موقع المنفعل متجاهلا رؤية الفاعل ورأيه ؟ وما دلالة هذا الاصطفاف في الحدث والحديث وما أثره على الحدوث ؟ هل هو منطق التاريخ الإنساني الأبدي أم هو منطق مرحلة يمكن للإنسانية أن تتجاوزها فتتصادق بالتعارف والتآنس لتتحرر من عداوة التناكر والتواحش ؟

لكن هذه الأسئلة هي المسائل التي تترتب على العلاقة بين فلسفة التاريخ وفلسفة الدين أعني مادة المدخل الثاني. فهذه العلاقة هي ما يفرض علينا العودة إلى ما لا يرضى عنه الكثير من النخب التي يعييها أن تفهم معنى تجدد الحضارات حدثا وحديثا كيف يتصل بالمعين الأصلي في أعماقها بدءا بلسانها وختما بأساس حصانتها الروحية (الموقف من التاريخ ومن الدين). فتسمية العولمة في الفرنسية تغلب عليها النسبة إلى العالم Mondialisation أو إلى الكوكب الأرضي Globalisation وتغلب على التسمية الإنجليزية هذه النسبة الثانية لكنها جامعة بين الدلالتينGlobalization .

فتبدو التسميتان محايدتين وخاليتين من كل شحنة دالة على موقف من التاريخ وفلسفته فضلا عن علاقته بفلسفة الدين لأن أولاهما تحيل إلى مجال حصول فعل العولمة[13] (شمول مكاني) والثانية تحيل إلى نوع تصوره أو مدى العلاج النظري لكيفية تحصيله (شمول تصوري)[14] إذا أخذنا الكلمتين في المعجم الفرنسي: فتكون الأولى ذات صلة بحصيلة العلاقات بين البشر والثانية بنوع التصور والعلاج المساعدين على فهم هذه العلاقات[15]. والاسم الثاني في المعجم الانجليزي يجمع المعنيين الفرنسيين وهو المعنى السائد في الكلام على العولمة لأن الأمرين يشتركان في النسبة إلى الأفعال التي يتحقق بها هذا المجرى وإلى الأفعال التي تحللها لتفسيرها فيكون دالا على الشمولين المكاني والتصوري[16].

فتبدو التسميتان في الظاهر ذاتي إحالة موضوعية لأمر طبيعي وموضوعي هو شمول الظاهرة المكاني وأثرها فعلا وحصيلة وشمولها التصوري للفعل والحصيلة: فعل يشمل العالم والكرة الأرضية وفهم يعالجه بمنظور يشملهما. لكنهما تبطنان ما نطلب الكلام فيه وراء ما تظهرانه: طبيعة هذا الفعل وطبيعة فهمه ما جوهر مجراهما وما هما؟ ولو استعادت العرب ملكة التسمية- وبها عُرف آدم في الرمز الديني-ولو حق للعرب أن يكون لهم منظور من منطلق مخيال التسمية في لسانهم لتمت تسمية العولمة بنسبة تدل على هذا الجانب الخفي مع عدم إهمال الجوانب الظاهرة فتكون النسبة إلى المعمورة لا إلى العالم ولا إلى الكوكب الأرضي. فهي ليست نسبة متأخرة صارت مطابقة في الغاية عندما اكتملت فشملت العالم بالفعل بل هي ملازمة للتاريخ الإنساني وهي ليست نسبة بسيطة بين ظاهرتين هما العولمة ومدى امتدادها سواء سميناه العالم أو الكوكب بل هي نسبة مركبة.

إنها ليست مجرد إضافة بين أمرين هما شمول فعل الإنسان العملي والنظري من جهة والأرض من جهة ثانية بل هي علاقة متقومة بالعلاقة بين هذين الأمرين. إنها إذن تعين طبيعة هذه النسبة بين الإنسان والأرض أعني: علاقة الإنسان بالأرض هي فعله المقوم لوجوده وإذن فالاستعمار هو حد الإنسان ذاته من حيث إن كيانه المادي والروحي هما عين عمارة الأرض والعالم تصورا وانجازا وليست مجرد انتشار فعله فيهما كيفما اتفق. فحياته ذاتها تبادل طاقي مع الأرض منها يخرج وإليها يعود وبها يتقوم. ظاهرة العولمة ليست غاية استعمار الأرض بل هي جوهره حتى لو اقتصر على متر مربع منها. وأي نقطة يشغلها الإنسان تكون بداية تشمل المعمورة كلها بالقوة منذ البدء وتعمها فتشملها بالفعل في الغاية: لأن الأرض هي الرصيد الممكن.

فيكون استعمار الأرض بالمعنى القرآني[17] أو الاستعمار دون إضافة تعيين هو المعنى الذي يساعد على فهم ظاهرة العولمة ليس من حيث غاية الاستعمار فحسب بل من حيث مجراه من البداية إلى الغاية وبكل معاني الكلمة موجبها وسالبها: فالنشأة من الأرض هي علة الاستعمار فيها لأن الأرض هي معين قيام الكيان البشري عضويا ونفسيا. كلمة واحدة تفيد المضاف والمضاف إليه: الاستعمار يدل على فعل التعمير وموضوعه أعني المعمورة. أصل الظاهرة هو إذن استعمار الأرض المتدرج إلى أن يصل إلى توحيد المعمِّرين في المعمور من المعمورة حدثا وحديثا وما يتصل بهما في الحال والمخيال كما سيتبين في المستوى الثاني من العلاج: فالشمول المتدرج متناسب مع نسبة بين عدد المعمرين ومعين المعمورة[18].

فتكون التسمية العربية ألصق بطبيعة العمق الذي تعد العولمة أحد مظاهره أو مرحلة من مراحله أو شكلا من أشكاله فضلا عن كونها مستمدة من خيال التسمية في اللسان العربي التسمية التي يمكن أن ننسب استعمالها العلمي الأول إلى ابن خلدون[19]: فمن الاستعمار بكل معانيه الموجبة (كما في القرآن أي مهمة الاستخلاف في الأرض) والسالبة (كما في الظاهرة المشؤومة التي تحمل هذا الإسم) اشتق الجزء الأول من موضوع علمه: علم العمران البشري (والجزء الثاني من الموضوع هو: والاجتماع الإنساني). وهذا الاستعمار بمعنييه ودون تقويمٍ تصوراتُه هي المضمون الوحيد لكل فلسفة في التاريخ تعبر عن موقف منه ومن صلته بما بعده[20].

وفلسفة التاريخ سواء أخذناها بمعناها المثالي (كما صاغها هيجل مثلا) أو المادي (كما صاغها ماركس مثلا) ليست إلا موقفا من فلسفة الدين في تأويلها لاستعمار الأرض موقفا مترددا بين الإيجاب (تفسر التاريخ بمعتقداته عند هيجل) والسلب (تفسر التاريخ بنفي معتقداته عند ماركس). فكلا الرجلين تعود فلسفته التاريخية إلى محاولة إثبات قضية واحدة يمكن أن نرد إليها جل تفسيرات ظاهرة العولمة في الفكر الغربي المعاصر: تاريخ الإنسانية ذاهب إلى غاية واحدة هي وحدة الإنسانية في المعمورة إما بفاعلية يغلب عليها النظر والثقافة أو بفاعلية يغلب عليها العمل والاقتصاد وهي في الحقيقة بجدلية بينهما مع تقديم وتأخير للأفعل من العاملين بحسب الموقفين. وكل ذلك محكوم بتلك النسبة الفعلية والذهنية بين السكان والموارد[21].

ذلك أن التفسير المقترح يؤول إما إلى فرضية تقول ببلوغ الروحانية الجدلية إلى العلم المطلق (هيجل) أو فرضية تقول ببلوغ المادية الجدلية إلى العمل المطلق (ماركس): وتلك هي نهاية التاريخ لأنها غايته. لذلك ترى الفيلسوفين رغم التقابل في المرجعية[22] التأويلية متفقين على وصف نزعة البرجوازية الإمبريالية بالإيجابية لأنها تحقق بالاستعمار في معناه التقليدي مهمة التحضير والتوحيد مهمتهما التي ينبغي لها أن تقضي على التخلف والتنوع لتحقيق الوحدة المنشودة.

ولا أظن أحدا ممن له دراية بالفكر الغربي يمكن أن يجادل في هذه المعطيات البسيطة حول المسألة ما يغنيني عن إثقال العمل بالإحالات التي هي من زاد كل المثقفين أيا كان سهمهم من الثقافة. إنما الإشكال يبدأ عندما يحاول المرء أن يقدم تصورا آخر للمسألة من مرجعية فلسفية ودينية أصابت أهلها الهزيمة الروحية فباتوا يعتقدون أنه لا يحق لهم أن يزعموا قولا في فلسفة التاريخ فضلا عن تأويله الديني خوفا من تهمة الظلامية والرجعية ! ذلك أنه بمجرد أن يصبح التأويل عربيا إسلاميا وتشتم فيه رائحة الدين ينقلب ظلامية ورجعية رغم أنه يوصف بكونه تنويرا وتقدمية لمجرد كونه هيجليا أو ماركسيا ورغم وحدة الخطاب من حيث الجنس الأدبي على الأقل.

لكن ذلك سيأتي بعد أن نفرغ من العرض الوصفي السريع للإشكالية كما تطرح في الفكر الحالي مع التركيز على الصوغ البياني الذي يحدد المقومات وأدوارها وخاصة ما بينها تفاعلات هي المطلوب لفهم الظاهرة وأثرها في ما يعاني منه العرب والمسلمون خلال سعيهم للتحرر المصحوب بالطموح إلى استئناف الدور التاريخي الكوني: فغيرهم ما كان ليبالي بهم لو كانوا يريدون أن يعيشوا تحت مضلة حماية سادة العولمة كغيرهم من الشعوب التي قبلت بهزيمة الصف الاشتراكي ورضيت بالقطب الواحد الذي هو رب العولمة الحالي. وسنترك الكلام على الأدبيات الحالية لأهل الاختصاص لأن المجال لا يسمح بالإطالة بما لا يعدم القارئ مصادره التي لا تكاد تحصى.

المسألة الثانية

عرض وتحليل وصفيين للظاهرة

من المعهود في هذا المستوى من العلاج عرض المعضلات التي ترتب على التعريف من منظور اللغة والحضارة التي تسميها إما بالتركيز على آثارها الجغرافية السياسية في وجهي علاقات الدول السياسة وأقوى أدواتها الدبلوماسية والعسكرية[23] أو بالتركيز على آثارها الجغرافية الثقافية في وجهي علاقات الشعوب وأقوى أدواتها التواصلية والتعارفية[24] أو بالجمع الجدلي بين المنظورين[25] عند الربط بالرهان في كل هذه العلاقات أعني المحرك الأساسي في العولمة[26]: العلاقات الاقتصادية بكل درجاتها المادية واللامادية وفيها تتحد الجغرافيا السياسية والجغرافيا الثقافية بل الجغرافيا عامة إذ إن الأرض هي معين الحياة والعلاقات من توابع سد الحاجات والسلطان عليه وبه.

لكن كلا الوجهين الصادرين عما يفضل بالتقديم بمقتضى هاتين التسميتين مضاعف مرتين. فالسياسة ذات تعينين هما وجهها الرمزي أو الدبلوماسية ووجهها المادي أو القوة العسكرية. والاقتصاد ذو تعينين هما وجهه الرمزي أو حركة رأس المال ووجهه المادي أو حركة ثمرات اجتماع الخبرة ورأس المال أعني البضائع والخدمات (وضمنها العمل منذ أن أصبحت الآلة قادرة على تعويضه). فيكون المدلول الأول من العولمة مربع الأبعاد. والمهم في هذا الوجه-وتلك هي علة التسمية-قابليته لقراءتين: فمن حيث الفاعلية اللإرادية والمادية لا بد من تقديم الاقتصادي على السياسي ومن حيث الفاعلية الإرادية والرمزية لا بد من تقديم السياسي على الاقتصادي. فيكون الاقتصادي بوجهيه والسياسي بوجهيه متبادلي الأدوار: كلاهما أداة وغاية بالإضافة إلى الآخر وهو تضايف يجعل الكثير لا يفهم القرار الدولي ما مصدره هل هو الدول أم الشركات العابرة ؟ وهذان الموقفان هما المحددان للمدارس الفكرية التي تفسر الظاهرة من المنطلق الجغرافي السياسي: تقاسم الأرض وثرواتها بين القوى بدوافع اقتصادية أساسا وبأدوات دبلوماسية عسكرية فيكون السياسي في ذلك مجرد واجهة.

التعريف الأول: أدوات الفعل المعولم بأدوات مادية خاصة


السياسة

الاقتصاد


الوجه الدبلوماسي

(الاستعلام والتاثير)

الخفي

الوجه العسكري

(الإعلام والجيش)

رأس المال

(المال والخبرة)

المنتوجات

(بضائع وخدمات)

بما فيها العمل



والأمر بالمثل في حالة الوجهين الآخرين أعني العولمة الجيوثقافية. فكلا وجهيها مضاعف مرتين: التواصل والتعارف. ويتبادلان الدور مترددين بين دور الغاية ودور الأداة: بينهما تضايف من جنس التضايف بين الاقتصاد والسياسة. لكن التضايف فيهما أعمق لأنهما يتعلقان بالمدى البعيد رغم تبعيتهما للأولين وخضوعهما لما بينهما من تضايف. لذلك تراهما يصبحان من أدوات الدبلوماسية والسياسة في خدمة الاقتصاد:

التعريف الثاني: أدوات الفعل المعولم بأدوات رمزية خاصة

التواصل

التعارف

التواصل المباشر

التواصل غير المباشر

التعارف الحي

التعارف العلمي

(المواصلات)

( أدوات الاتصال)

(مثل السياحة)

(مثل الإثنولوجيا)

ذلك أن التواصل بين الشعوب ذو تعينين هما وجهه الرمزي غير المباشر أو حركة المعلومات بأدوات التواصل العامة والخاصة ووجهه المادي المباشر أو حركة الناس في المكان. والتعارف أيضا دو تعينين هما وجهه الرمزي غير المباشر أو معرفة الشعوب بعضها بالبعض عن طريق المعرفة العلمية ووجهه المادي المباشر أو معرفة الناس بعضهم بالبعض كما في السياحة مثلا. فيكون المعنى الثاني أيضا مربع الأبعاد: التواصل المعلوماتي والتواصل الحي والتعارف العلمي والتعارف الحي.

والمهم في هذا الوجه-ومن هنا التسمية-هو أن تغليب الوجه المادي منه يجعل العلاقة البشرية متقدمة وتغليب الوجه الرمزي يعكس. فيصبح التواصل والتعارف غير المباشرين حائلين دون التواصل والتعارف الحقيقيين لأنهما يمكن أن يكونا أداتي تشويه فيفسدان التواصل والتعارف الحييين بين الشعوب ويتحولان إلى أداة سياسية في الحرب النفسية بل هما أهم هذه الأدوات. فتنقلب الثقافات إلى حواجز وموانع التواصل: لذلك تكلمنا عن التعارف.

رأينا كيف أن كل الوجوه الثمانية يمكن أن تكون فعلا ماديا "أو-و" فعلا رمزيا فإذا جمعنا بينها من حيث هي مادية كانت كلها تابعة للوجه الجغرافي السياسي وإذا جمعنا بينها من حيث هي رمزية كانت تابعة للوجه الجغرافي الثقافي[27]. وذانك هما التوحيدان الممكنان: إما العلاقات بين الدول أو العلاقات بين الشعوب. وهي في الحقيقة ليست هذا ولا ذاك لأنها في الحالة الأولى علاقات يحددها منطق الصراع على الرزق وسلطانه وفي الحالة الثانية علاقات يحددها منطق الصراع على الذوق وسلطانه. فيكون الأمر كله في مجريات العولمة: كيف يحصل رد الذوق وسلطانه في مجال التربية والثقافة إلى الرزق وسلطانه في مجال السياسة والاقتصاد فتضيع الغاية من أجل الوسيلة وينكص الإنسان إلى قانون تاريخه الطبيعي بدل السمو إلى قانون تاريخه الخلقي[28] ؟


التعريف الجامع: كل أدوات العولمة المادية والرمزية

تعريف

التعريف الجغرافي السياسي

التعريف الجغرافي الثقافي

مقوم

البعد السياسي

البعد الاقتصادي

بعد التواصل

بعد التعارف

أبعاد

دبلوماسي

عسكري

رأسمالي

مُنتَجي

وصلي

اتصالي

لقائي

علمي










فتكون مستويات الكلام في العولمة كلاما وصفيا وإن بصورة مخالفة للمعهود لاستعمالنا مصطلحات مستقرأة من الفلسفة الخلدونية كالتالي:

1- العولمة في الأذهان: دراسة تطور الكونية والعولمة في مستوى تاريخ الأفكار المتعلقة بهما.

2- العولمة في الأعيان: دراسة تحقق الكونية والعولمة في مستوى الوقائع الحضارية الأربعة التي ذكرنا أعني السياسة والاقتصاد حول الرزق وسلطانه والتربية والثقافة حول الذوق وسلطانه.

3- لكن أثر عولمة الأذهان في عولمة الأعيان هو مصدر الفلسفة السياسية الماكيافيلية التي تجعل العولمة العينية غاية الأداة المادية في فعل السياسة السياسية: الدولة الديوقراطية والاقتصاد الليبرالي حربيان بالجوهر لأنهما غير قابلين للتصور من دون استعمار وأمبريالية للحاجة إلى مجال حيوي.

4- وأثر عولمة الأعيان في عولمة الأذهان هو مصدر فلسفة التاريخ الداروينية التي تجعل العولمة الذهنية غاية الأداة الرمزية في فعل السياسة: التربية العقلانية والثقافة الحديثة حربيتان بالجوهر لأنهما تنقلبان إلى أداتين تستعملها الدولة الديموقراطية والاقتصاد الليبرالي فيصبح الإنسان أداة لا غاية.

5- فتكون العولمة من حيث هي واقعة وفلسفة في الوجود الفعلي وفي الضمائر هي حصيلة هذين التأثيرين المتبادلين: أي إنها منطق الحرب الكلية في الدولة والاقتصاد والتربية والثقافة سواء نظرنا إلى الأمر في السياسة الداخلية أو في السياسة الخارجية لكنها تكون حربا باردة في الداخل وساخنة في الخارج. وإذا لم توجد حربا ساخنة في الخارج فلا بد لها من إيجادها لأنها من شرط البرودة في الداخل بمنطق مكيف الهواء بردا وسلاما في الداخل وحرارة وآلاما في الخارج !

فإذا صغنا المعادلات صوغا يعين وجهة الفاعلية المعولمة وأدواتها بمصطلحات ابن خلدون أمكن لنا أن نستخرج هاتين العبارتين شبه الرياضيتين: أولاهما تتعلق بالمعادلات من حيث صلتها باستعمار الأرض بوصفه عمرانا والثانية تتعلق بالمعادلات من حيث صلتها باستعمار الأرض بوصفه اجتماعا كما يتبين من الجدولين التاليين:

1-الشكل الأول يعرضها بمنطق من يقدم التاريخ الطبيعي على التاريخ الخلقي للبشرية أي عندما يكون التنازل لقضاء الحاجات مقدما على التنازل للتآنس بلغة ابن خلدون.


أحياز العولمة

العولمة في الأعيان

العولمة في الأذهان

آثار

العولمة

وأدواتها

آثار العولمة السياسية

والاقصادية

العولمة المادية وسلطانها

على السلطة الزمانية

عولمة الإنتاج المادي

سوق الرزق وسلطانه

آثار العولمة التربوية

والثقافية

عولمة الإنتاج الرمزي

سوق الذوق وسلطانه

العولمة الرمزية وسلطانها

على السلطة الروحية

2-الشكل الثاني: يعرضها بتقديم مقابل يجعل التاريخ الخلقي له الصدارة على التاريخ الطبيعي للبشرية أي عندما يكون التنازل للتآنس مقدما على التنازل لقضاء الحاجات بلغة ابن خلدون.


أحياز العولمة

العولمة في الأذهان

العولمة في الأعيان

آثار

العولمة

وأدواتها

آثار العولمة التربوية

والثقافية

العولمة الرمزية وسلطانها

على السلطة الروحية

عولمة الإنتاج الرمزي

سوق الذوق وسلطانه

آثار العولمة السياسية

والاقصادية

عولمة الإنتاج المادي

سوق الرزق وسلطانه

العولمة المادية وسلطانها

على السلطة الزمانية

المسألة الثالثة

التأويل الفلسفي العام

ينقلنا هذان الشكلان مباشرة إلى التأويل الفلسفي العام والخاص إذ قد أعدا للكلام بلسان ابن خلدون. فما ننوي تقديمه في هذا العلاج يحلل الظاهرة الحالية ولكن بهدف درسها من منطلق مرجعية عربية إسلامية خالصة تبين أن الأمر يتجاوز عرض العولمة لأن الإنسان تجاوزها إلى ما يمكن تسميته استعمار الكون ولم يعد قانعا بالأرض. وابن خلدون يرد ذلك إلى ما يسميه حب التأله عند الإنسان الذي ليس لطموحه حد[29]. ولن يضيرني في شيء إذا نسب ذلك إلى موقف ماضوي: ألسنا في ندوة تحاول فهم العلاقة بين إشكالية استعمار المعمورة وما بين الفكر القومي والقكر الإسلامي حاليا من صلات لمجريات العولمة أحداثا وأحاديث عليها كبير الأثر ؟

قد يتصور البعض أن مضاعفة الموضوع في اسم العلم الذي يدعي ابن خلدون تأسيسه "علم العمران البشري والاجتماع الإنساني"[30] مجرد صدفة لا علاقة لها بفلسفة التاريخ من حيث صلتها بفلسفة الدين ومن حيث صلة الأمرين باستعمار الكون بدءا بالأرض في المعنى الذي حددنا به مفهوم العولمة من مرجعية خيال التسمية العربية وختما بالعالم المخلوق كله: فالعولمة كما أسلفنا ليست هي نسبة إلى العالم ولا هي نسبة إلى الكرة الأرضية بل هي صفة ذاتية لنسبة الإنسان إلى العالم وإلى الكرة الأرضية أعني أنها كيفية من كيفيات قيامه الذي هو استعماره الأرض والكون. ذلك أن هذا الاستعمار هو عين قيام الإنسان ليس بمعنى المقام في العالم بل بمعنى امتناع القيام الوجودي من دون استعماره وهو مدلول " هو الذي خلقكم من الأرض واستعمركم فيها".

فتكون الظاهرة بلسان عربي مبين هي: استعمار الأرض والاستخلاف فيها وخصائصها هي كيفيات هذا الاستعمار وقوانينه سواء أخذناه إيجابا بالمعنى القرآني أو أخذناه سلبا بالمعني المباشر أو غير المباشر في موجات الاستعمار أي استعمار وآخره الاستعمار الغربي للعالم. ولا شيء من ذلك يختلف عن تاريخ الإنسانية كله منذ فجره إلا بكونه المرحلة الراهنة منه. وهو ليس الغاية كما يتصور البعض لأن الكون كله ليس هو إلا مستعمرة ممكنة للإنسان حتى عند المؤمنين. فكيف يحصل هذا الاستعمار إذا ترجمنا العلاقات بين أبعاد العولمة وسواعد فعلها بما يمكن استمداده من دلالا ت استعمار الأرض القرآنية والتاريخية ؟ لا بد أن نشير إلى أمرين مهمين يحددان المقصود بشمول استعمار الأرض بمفهوميه المحايد والمشحون.

فبصورة محايدة يقاس شمول الاستعمار بما تشغله أفعاله في أحياز الفعل الإنساني الخمسة:

1-في حيز المكان وكيف جعل استعمارُ الإنسان المعمورةَ مجالَ أفعاله المادية أي وحدةً جغرافية سياسية وجغرافية ثقافية بفضل جعله إياها وحدة جغرافية اقتصادية واحدة: الترابط الرزقي أو المعاشي بين البشر أو توحيد الرزق البشري.

2-في حيز الزمان وكيف جعل استعمارُ الإنسان المعمورةَ مجالَ أفعاله الرمزية أي وحدة تاريخية سياسية وتاريخية ثقافية بفضل جعله إياها وحدة تاريخية اقتصادية واحدة: الترابط الذوقي بين البشر المتساوقين والمتوالين أو توحيد الذوق البشري.

3-في حيز سلم المنازل والأدوار الاجتماعية وكيف جعل استعمارُ الإنسان المعمورة مجالَ تثمير فعليه السابقين في السلم الاجتماعي أي وحدة منازلية لا تفريق فيها بين الناس بالألوان والأجناس والعقائد بل المعيار الوحيد للنجاح وشغل المنزلة هو العمل أو المعيار الاقتصادي المباشر أو الاقتصادي غير المباشر: الترابط المنازلي بين البشر أو توحيد سلم الرتب البشري.

4-في حيز الدورة الحضارة المادية وله صلة مباشرة بحيز المكان والرزق وكيف صارت نواحي المعمورة تقاس بما فيها من موارد بالقياس إلى دورة التحويل الاقتصادي من الطبيعي إلى الصناعي والعكس بالعكس فتتحدد قيم المناطق بمعيار ما يمكن أن تقدمه لهذه الدورة وبه تتحدد الجغرافيا السياسية: مثال ذلك دور الثروات البترولية أو المناطق السياحية الطبيعية.

5-في حيز الدورة الحضارية الرمزية وله صلة مباشرة بحيز الزمان والذوق وكيف صارت مآثر الحضارات وتراثها تقاس بالذائقة الكونية التي هي ذائقة من بيده السلطان على الأحياز الأربعة السابقة: مثال ذلك دور الآثار والثروات الثقافية أو المناطق السياحية الثقافية.


الرهانات

الرزق

سلطان

الرزق

الذوق

سلطان

الذوق

استعمار

الأرض

الأحياز

المكان

السعي إلى توحيد المكان المادي والرمزي بالاقتصاد الغالب

الزمان

السعي إلى توحيد الزمان المادي والرمزي بالثقافة الغالبة

السلم

السعي إلى توحيد الرتب والمنازل بالمعيارين السابقين

الدورة المادية

تقويم المعمورة بمعيار ثرواتها وطاقاتها الطبيعية حسب حاجة الأقوياء

الدورة الرمزية

تقويم المعمورة بمعيار ثرواتها وطاقاتها الحضارية حسب حاجة الأقوياء

لكن للشمول معنى مشحونا هو ما يجعل شمول الأحياز وتوحيدها ليس بمجرد الانتشار فيها بل بتحوله إلى سلطان عليها وعلى من فيها: وبذلك نجد أنفسنا أمام المعنى الثاني للاستعمار أعني السلطان الأجنبي الذي يستعبد بدل أن يحرر ويخرب بدل أن يعمر أو بصورة أدق يحرر في داخله ويستعبد في مجاله الحيوي ويعمر في داخله ويخرب مجاله الحيوي. ولما كانت المقابلة بين الداخل والخارج في المعمورة مقابلة تجاوزها التوحيد بالأبعاد الخمسة التي ذكرنا صار المعنى الثاني من الاستعمار معنى غير قابل للبقاء ومن ثم فهو في رمقه الأخير ممثلا بمعركته الخاسرة ضد المعنى الأول من الاستعمار كما يحدده القرآن الكريم: كيف سيميز المستعمر بين الداخل الذي يحرره ويعمره والخارج الذي يستعبده ويخربه ؟

وبذلك نصل إلى مطلوبنا في هذه المحاولة أعني الجواب عن السؤالين التاليين في صلة مسألة العولمة أو بمفهومها العربي الإسلامي استعمار الأرض وبالعلاقة مع الحوار القومي الإسلامي كما جاء في الدعوة الكريمة:

1- أي معنى لكوننا في وضع جعل من بيده الحول والطول يرانا حائلا دونه واستكمال استعماره لها بالمعنى السالب حتى وإن كان يخفيه بالزعم أنه مع المعنى الموجب ؟

2- وما علاقة تاريخنا حدثا وحديثا بمسار استعمار الأرض بالمعنيين الموجب فعلا وانفعالا والسالب فعلا وانفعالا ؟

ليس القصد الكلام على العولمة كلاما أكاديميا يطلعنا على ما يدور حولها من أقاويل فحسب بل الهدف هو تحديد طبيعتها الذاتية لفهم صلتها بنا نحن العرب والمسلمين إذا تصورناها كما أسلفنا مجرد عرض لأمر أعمق منها أو بصورة أدق مرحلة من مراحله. لذلك فلا بد أن نجيب عن هذين السؤالين من منطلق هذا العمق الخفي الذي تعد العولمة وجهه السطحي بعد تعيينهما بالصورة التالية:

تحرير السؤال الأول: هل من دلالة لكون سيدي العالم في الغرب بوجه السيادة المادي (الولايات المتحدة) وبوجهها الروحي (إسرائيل) أصبحا يعتبران المشكل الرئيسي في استعداداتهم للقرن الحادي والعشرين هو إعادة استعمار أرض العرب والمسلمين وإخضاع إرادتهم لمنعهم من التحرر والنهضة باسم قيم التحرر والنهضة ؟

ولا يعني ذلك أننا نعتبر أمريكا وإسرائيل ممثلتين للشر وننسب إلى أنفسنا تمثيل الخير لأننا لا نطرح المسألة في مستوى الأخلاق بل في مستوى الصراع الوجودي ومناظيره تقديما وتأخيرا لقانون التاريخ الطبيعي وقانون التاريخ الحضاري في ما يسميه ابن خلدون استعمار الأرض والاستخلاف فيها[31].

تحرير السؤال الثاني: هل في صلتنا بالتاريخ الكوني نحن العرب خاصة والمسلمين عامة ما يجعلنا نمثل حقا دمل العالم الذي يكاد أهله يجمعون على أننا العائق الوحيد أمام العولمة أم نحن في الحقيقة وبفضل هذه الصلة نمثل أمل العالم لتحرير البشرية من مرض الكونية مرضها المسمى عولمة بمقتضى تصورنا لطبيعة استعمار الأرض والاستخلاف فيها ؟

كما لا يعني هذا أن العرب والمسلمين يمثلون الخير وأن اعداءهم يمثلون الشر بنفس تعليل الاحتراز أعني أن المطلوب في البحث ليس أخلاقيا بل هو طبيعة المعركة الوجودية ومناظيرها الفلسفية تقديما وتأخيرا لقانون التاريخ الطبيعي وقانون التاريخ الحضاري.

والسؤال يكون أدق لو صغناه بهذه العبارة: هل نحن العرب والمسلمين دمل العالم لأننا نسعى إلى استئناف دور تاريخي لا يؤمن بالكونية كما يزعم الأعداء أم لأننا نتصدى لما يحول دون هذا الاستئناف لتحقيق كونية الأخوة البشرية بديلا من العولمة الداروينية ؟ أو بصورة أدق هل نحن دمل لأننا نرفض العولمة أم نحن دمل لأننا نمنع من شروط المساهمة فيها بمنظور يحررها من سلطان القانون الطبيعي ويضخ فيها ما هو ممكن إنسانيا من سلطان القانون الحضاري [32] ؟

لذلك وجدتني مضطرا إلى إضافة هذا المستوى الثاني المضاعف من العلاج وفيه نبين أن العولمة عرض سطحي لظاهرة أعمق يقتضيها الوجود الإنساني هي الكونية المكتوبة في كيان الإنسان العضوي (الأرض هي معين معاشه) والنفسي (واستكشاف محيطه شرط اطمئنانه) سوية كانت أو فاسدة. وهي عندما تَفسد تُفسد معها مقومي الوجود الإنساني المتلازمين سواء كان التوازن بينهما سويا وهو الصحة الحضارية أو منخرما وهو المرض الحضاري: أعني تنازع قانون التاريخ الطبيعي (الصراع على المعاش) وقانون التاريخ الحضاري (الاستكشاف للاطمئنان) في تحديد منزلة الإنسان الوجودية أو بعبارة أدق هل نلحق التاريخ الحضاري بالتاريخ الطبيعي فنقبل بفلسفة في التاريخ داروينية أم علينا أن نتحرر منها وكيف ؟

وهذان التاريخان بقانونيهما أعني قانون الضرورة وقانون الحرية يؤدي استبدادُ أحدهما بمنزلة الإنسان وإلغاء الآخر عند أحد صفي المعركة التاريخية الأظهرين والعكس عند صف آخر إلى حرب أهلية مضاعفة عند الشعوب المغلوبة أولا وفي الشعوب الغالبة ثانيا ثم في الإنسانية كلها حتى وإن طغى على المعركة صفان يخفيان وجوهها الأخرى: فتبدو المعركة وكأنها تجري بين صفين هما الصف الذي يمثل ذروة العولمة الفاعلة أو آثارها المتوحشة والصف الذي يمثل قاع العولمة المنفعلة التي تقاومه في شروط تمثيل الذروة كما هي الحال في علاقة العرب والمسلمين بالولايات المتحدة وإسرائيل.

لكن ذلك يخفي أن كل جماعة تنقسم إلى صفين بحيث إن منطق الاصطفاف ليس بين الجماعات فحسب بل هو في الجماعات كذلك: أي إن هذه المعركة يخفي وجهها الخارجي وجهها الداخلي رغم كون الوجهين من طبيعة واحدة. وهذه الظاهرة الأعمق هي طبيعة الجدلية الجارية بين ميلين في السلوك الإنساني:

ميل أول يقدم منطق التاريخ الطبيعي على منطق التاريخ الحضاري.

وميل ثان مقابل يعكس فيقدم منطق التاريخ الحضاري على منطق التاريخ الطبيعي.

فتنتج عنهما جدلية ثابتة لا تتغير في كل مستويات العلاقات البشرية سواء أخذناها في الجماعة الواحدة أو بين الجماعات وحتى في ذات الوجود الشخصي للفرد الإنساني. فيكون كلا الصفين مسؤولا على الحرب الأهلية الدائمة التي تعيشها الجماعة البشرية: أي إن صاحب الميل الثاني لا يقل مسؤولية عن صاحب الميل الأول بما نفى أحد مقومي الوجود السوي لأن إهماله دور التاريخ الطبيعي في التاريخ الحضاري يجعله منزوع السلاح أمام الموقف الأول فيكون علة الفساد مثله[33].

وحتى يتبين القارئ معنى هذا الكلام يكفي أن نبين أن الأعراض جوهرية حتى في ما يعد من محامد العولمة أعني قيم شكلها السياسي المغرية أعني: الديموقراطية وحقوق الإنسان التي لا يمكن لأي عاقل أن يجادل في كونيتها وطابعها الخلقي. لكن كلام العرب والمسلمين على ازدواج الخطاب القيمي في الغرب وظنهم أنه ثمرة سوء نية أو فساد أخلاق عند الساسة والمفكرين يعني أنهم لم يفهموا طبيعة العولمة على حقيقتها. فليس الازدواج أمرا عرضيا بل هو أمر بنيوي للنظام الذي تتعرى طبيعته بمجرد أن يصطدم بمحك الكونية: لذلك فإنه من الظلم أن نتصور السياسيين والمفكرين الغربيين يعملون ذلك لسوء نيتهم أو لفساد طويتهم أو لعدوانيتهم.

فالنظام الديموقراطي مبني على إيديولوجية حقوق الإنسان وحريته ليس في ذلك شك. وازدواج المعايير أمر لا شك فيه كذلك. والخطأ هو في تصور ذلك أمرا اختياريا دون أن نسأل لحظة واحدة عن شروط إمكان الكونية في تطبيق هذه القيم. والغوص إلى ما نطلبه يبين أن هذه القيم ممتنعة التطبيق الكوني: أي إنها لا تقبل أن تعم البشر بل لا بد من أن تكون خاصة بالبعض دون البعض وذلك هو جوهر مفهوم الندرة وأساس علم الاقتصاد الندرة الفعلية أو الناتجة عن العادات الاستهلاكية.

ويكفي أن نحلل آليات الحكم الديموقراطي حتى نفهم هذا الحكم القاطع الذي قد يتصوره البعض جائرا في حين أنه بمنأى عن التقويم الخلقي: Value free. فآليات الديموقراطية ألغارشية بالطبع حتى وإن تخفت برداء الديموقراطية في الداخل. لذلك فهي لا تستحي بإظهار الوجه الاليغارشي في الخارج أعني وجهها الحقيقي. لذلك فالعولمة التي ألغت المقابلة "خارج-داخل" نزعت عنها الرداء الإيديولوجي. أليس أساس هذه الآليات التي يستمد منها الحكم في هذا النظام هو منطق الأحزاب المتداولة على الحكم ؟ وهل منطق التحزب الذي تستند إليه آليات الحكم أمر تحكمي كما قد يظن السطحيون أم هو محكوم بقوانين ؟ والقانون الثابت الذي لا يتغير نابع من طبيعة الخصائص الأليغارشية الحقيقية للنظام الذي يتنكر تحت اسم الديموقراطية : فلا يمكن أن يحقق هذا النظام السلم في الداخل إلا بفضل الحرب في الخارج بالقوة أو بالفعل ولا فرق.

وهو ما يجعله بالذات وبالجوهر لا يقوم إلا بالتلازم مع النزعة الاستعمارية بمقتضى الظاهرة العميقة التي ننوي الكشف عنها هنا. ومن ثم فهو لا يختلف في شيء عن نظام القبيلة البدائية التي تستمد ازدهار الداخل من رؤوس رماحها أعني من غزو الخارج[34] ما ظل التاريخ الإنساني محكوما بقانون تاريخه الطبيعي:

فجميع الأحزاب ذات الإيديولوجية الليبرالية وخاصة الجديد منها في كل جماعة تقدم قانون التاريخ الطبيعي ممثلا بالعلاقات الاقتصادية ومنطق التنافس على قانون التاريخ الخلقي ومنطق التعاون وتطلق على ذلك اسم الحرية متصورة أنه أفضل السبل لتحقيق الرفاهية المادية ومعتبرة العدالة وهما لا يؤدي إلا إلى المساواة في الفقر. وهي بذلك أكثر صدقا من الأحزاب الإشتراكية لأنها تخفي أقل مما تخفي بخصوص العلاقة بالمجال الحيوي المشروط في الوعود الانتخابية.

وجميع الأحزاب ذات الإيديولوجية الاشتراكية وخاصة الجديد منها في كل جماعة تقدم قانون التاريخ الخلقي ممثلا بالعلاقات الاجتماعية ومنطق التعاون على قانون التاريخ الطبيعي ومنطق التنافس وتطلق على ذلك اسم العدل متصورة أنه أفضل السبل لتحقيق الرفاهية النفسية معتبرة الحرية وهما لا يؤدي إلا إلى أكل القوي للضعيف. وهي بذلك أكثر كذبا من الأحزاب الليبرالية لأنها تخفي أكثر مما تخفي بخصوص العلاقة بالمجال الحيوي المشروط في الوعود الانتخابية.

لكن كلا الصنفين من الأحزاب لا يمكن تصوره حاكما للمعمورة لأنه عندئذ سيفقد شرط وجوده أو شرط ما يسمى باللعبة الديموقراطية: فهي مستحيلة التصور مع الكونية إذ ليس في الأرض ما يكفي لتحقيق ما يرضي الناخبين. فما يعيش به ناخب أمريكي متوسط يعيش به ربما ألف هندي مثلا: فكيف سيرضي المترشح ناخبيه إذا لم يوجد هنود يقبلون الاستعباد ؟ وإذن فمن دون مجال حيوي خارجي لا يمكن تصور بعض البلاد متمتعة بما يسمى مزايا الديموقراطية الغربية ليس في الحقوق المادية فحسب بل وكذلك في الحقوق المعنوية. وإذن فحكم المعمورة بالديموقراطية على الأقل بمنطقها الحالي أمر متناقض بالجوهر: اللهم إلا إذا قبلنا بالتمييز بين ديموقراطية السادة في الولايات المتحدة ديموقراطية العبيد في الهند.

فحتى يحقق أي حزب من صنفي أحزاب[35] أي نظام ديموقراطي شرط وصوله إلى الحكم وبقائه فيه رغم ما في تصور النوع الأول من منفرات لفقراء الشعب وما في تصور النوع الثاني من منفرات لأغنيائه فلا بد لهم من مجال حيوي خارجي يأخذون منه ما يرضون به ناخبيهم الذين لهم بعض الحقوق في مقابل سكان هذا المجال الخارجي الذين تسلب منهم كل الحقوق عدا رمق العيش الذي يحتاج إليه العبد ليكون في خدمة السيد: فتكون السلم الداخلية في كل نظام ديموقراطي مشروطة حتما بالحرب الخارجية وهذا من ثوابت النظام الديموقراطي القديم عند اليونان والحديث عند الأوروبيين وعندما تتصادم الأنظمة الدبموقراطية حول المستعمرات تضطر لأحد حلين لا ثالث لهما إما أخذ الشكل الفاشي أو الدخول في حروب كونية[36].

والمعلوم أن المجال الحيوي الذي هو بقية العالم المنفعل بالإضافة إلى من بيدهم مقاليد العولمة الفاعلة مثله مثل الاستعمار الذي يحميه ذو شكلين[37]:

الأول هو الشكل البدائي الذي احتاج إليه الاستعمار والعبودية المباشرين وهو شكل انتهي مع الحرب الباردة. وفيه كان المستعمِر ينتقل إلى المستعمَر لأخذ ثروات أرضه والإبقاء على السكان لأنه يحتاج إليهم عبيدا فيها بعد أن اضطر غزاة أمريكا إلى استيراد العبيد لأنهم تورطوا بإفناء الحمران ولم يجدوا من يستعبدوا فاستوردوا السودان.

الثاني هو الشكل المتطور الذي احتاج إليه الاستعمار والعبودية غير المباشرين وهو شكل بدأ بعد الحرب الباردة. وفيه ينقل المستعمر معامله إلى المجال الحيوي ويمول طبقة تجعل البلاد المستعمرة مجالا مفتوحا لرأس المال ولاستعباد أهلها وهم في عقر دارهم مع وهم إدارة أنفسهم بأنفسهم. فيستفيد المستعمر أضعافا: أنت تكون العمال والخبرة وهو يستخدمهم بدون كلفة وبأبخس الأسعار ثم يبيع لك من أنتجته أبناؤك بأغلاها مع تصدير التلوث وعدم فتح بلاده لقدومك إليه فتلوثه بوجودك !

فلا تكون آليتا الاستعمار والاستعباد أمرا يوجد بين الأمم فحسب بل هما موجودتان في كل أمة بين طبقاتها ثم بين الأمم والقضية تتجاوز الجغرافيا السياسية ببعديها السياسي والاقتصادي والجغرافيا الثقافية ببعديها التواصلي والتعارفي إلى ما هو أعمق في حدث الكيان الإنساني كما صوره حديثه عنه: حديثه عن كيانه العضوي وكيانه النفسي جعلا حدثهما ينكص به إلى قانون التاريخ الطبيعي بدل السمو إلى قانون التاريخ الخلقي.

المسألة الأخيرة

التأويل الفلسفي الخاص

نحاول فهم هذا المعين الغائر في الأعماق علنا ندرك طبيعة الموقف العربي الإسلامي من مسألة استعمار المعمورة وما يتبعها في الكون[38]. وذلك هو المطلوب في مثل هذه الندوة. ذلك أننا نريد تفسير الظاهرة من منظور علاقة فلسفة السياسة والتاريخ بفلسفة الدين في الفكر العربي الإسلامي لأن مقابلاتها الغربية لا تفسرها إلا بآلية واحدة لا تميز بوضوح بين معنيي الاستعمار: المعنى التحريري من قضاء الحاجات من أجل التآنس وشكله المنحط أي الاستعمار العبودي الذي يجعل الإنسان عبد اللامتناهي الفاسد بالمعنى الهيجلي للكلمة فيمررون الثاني بتوظيف قيم الأول توظيفا إيديولوجيا بل ويتهمون الموقف المقابل بأخص خصائص موقفهم فيصبح المدافع عن حريته إرهابيا والساعي إلى الأخوة الإنسانية غير متسامح ومتعصب وغير مؤمن بثقافة السلام.

فتسأل ولا تكاد تصدق عينيك وأذنيك وكل حواسك: هل الأساطيل التي تمخر المحيطات عربية وإسلامية !؟ وهل جيوش المسلمين هي التي تحتل أوطان الغربيين !؟ وهل القرآن هو الذي ينكر جميع الأديان الأخرى؟! أليس هو الكتاب الوحيد الذي يشترط على المؤمن به الإيمان بها جميعا والقبول حتى بالأديان غير المنزلة مثل الصابئية والمجوسية بل ويرجئ حتى المشركين !؟ كيف يمكن للحروب الجارية على أرضنا أن تسمى عدوانا منا على الآخرين وهي لا تجري على أرضهم ؟!

نستأنف المسألة إذن من رأس. لم يبق الأمر قضية فكرية عامة تطرح للجميع بنفس الصورة فيردد فيها ما يُخرَّف حولها. ففيها من المقومات الدالة على محددات فلسفة التاريخ الإنساني ما يقتضي وصلها بمنازل الرؤى المتعلقة باستعمار العالم. ذلك أن العولمة هي غاية تطور الإنسان في السعي إلى تحقيق وحدة المعمورة سلما أو حربا حول رهانين لا ثالث لهما هما عين مقومي الوجود الإنسان اللذين بنى عليهما ابن خلدون فلسفته في التاريخ من حيث صلتها بفلسفة الدين القرآنية: رهان قيامه العضوي (الرزق والسلطان عليه عدلا أو ظلما) ورهان قيامه النفسي (الذوق والسلطان عليه سموا أو سفولا) وما يترتب عليهما من سلطان بهما ومن أجلهما (قانون التاريخ الطبيعي) وعليهما ومن أجل غاياتهما (قانون التاريخ الخلقي).

وهذان الرهانان يحركان السعي إلى استعمار الأرض الموصل إلى توحيدها التحريري أو الاستعبادي فيكونان ذوي صلة بفلسفة التاريخ وبالأدوار التي تؤديها المحركات الخفية لتطور النوع الإنساني أعني الحضارات والأمم. وإذن فهو في حقيقته عمل آليات خفية الاسم Anonymesليس فيها لاختلاف الحضارات الشكلية التي تشغل المعمور من الأرض دور محدد إلا بصورة عرضية بخلاف ما يذهب إليه القائلون بالحرب بين الحضارات من حيث هي حضارات.

وهذه الآليات الخفية تبدو قد أسندت لنا دورا معينا في لحظة التاريخ الكونية التي تتصف بصفات العولمة نحن الأمة التي تصورُها للتاريخ نقلا وعقلا كان ولا يزال كونيا ومبينا على استعمار الأرض والاستخلاف فيها فيكون موقعها الحالي وكأنه منزلة قدرية علتها التقابل بين رؤيتين للكونية نراهما في صدام حرج ينبغي فهم دلالاته. فنسأل السؤال الخلدوني: ما الآليات التي تسند الأدوار إلى الأمم وما الدور الذي أسند إلينا في لحظة التاريخ الراهنة ؟

ذلك هو همي في هذه المحاولة وليس الكلام المتعالم أو الرواية بدل الدراية حول العولمة الذي شبع حتى الموت كلاما وسلاما. ما يعنيني في هذه المحاولة هو منزلة العولمة في محددات فلسفة التاريخ وعلاقة ذلك بدور الأمم التي لها فلسفة تاريخ كونية فيها وذلك لئلا ننسى مسألة السنن التي تحكم الأمر في نفسه والتي يساعد فهمها في علاج الظاهرة نظريا وعمليا.

وتلك هي علة عودتنا إلى الفارابي بداية وابن خلدون غاية في هذه المسألة الأخيرة. فأما العودة إلى الفارابي بداية فعلتها أن فلسفة التاريخ الضمنية في فلسفة السياسة اليونانية مقصورة عل الكلام في المدينة لأنها ظلت فلسفة أساسها التصور الإثني للحضارة في أقصى ما بلغته المحاولات الأفلاطونية (محاورة الكريتياس) والأرسطية (الدساتير اليونانية). فكان أول من أضاف الفارابي مبدأ صريح في حضارته التي رسالتها تعتبر المطلق يخاطب العالمين بمعنيين توزيعي (لكل أمة رسول بلسانها) وكلي (الرسالة الخاتمة للجميع) ما به يتجاوز التحليل الديني الرسالة الإثنية والتحليل السياسي المدينة الإثنية ليصل إلى المعمورة الكونية قائلا:"... فيجتمع ما يقوم به جملة الجماعة لكل واحد جميع ما يحتاج إليه في قوامه وفي أن يبلغ الكمال. ولهذا كثرت أشخاص الإنسان فحصلوا في المعمور من الأرض فحدثت منها الاجتماعات الإنسانية. فمنها الكاملة ومنها غير الكاملة. والكاملة ثلاث: عظمى ووسطى وصغرى. فالعظمى اجتماعات الجماعة كلها في المعمورة. والوسطى اجتماع أمة في جزء من المعمورة والصغرى اجتماع أهل مدينة في جزء من مسكن أمة." [39].

لكن الفارابي اكتفى بالتنبه إلى المبدأ الكلي دون أن يؤسس عليه علما للظاهرة التي هي استعمار المعمورة أو العمران البشري بلغة ابن خلدون رغم كونه أول من وضع مفهوم العلوم الإنسانية وصلتها بالمنظور الوجودي في كتاب مبادئ الوجود وفي تحصيل السعادة. لذلك فغاية هذه المحاولة هي المقدمة التي جعلت استعمار الأرض موضوعا للعلم الجديد: علم العمران البشري والاجتماع الإنساني.

أشرنا في المسألة الثانية إلى أن العولمة تفهم بتقديم وتأخير للفواعل التي ميزنا بينها وصغناها بمصطلح ابن خلدون ولما كانت الفواعل من جنسين كما بينا في الجداول وكانت الأحزاب تتمايز بهذا الترتيب في الجماعة الواحدة وبين الجماعات فإن المعركة تصبح ذات صفين على النحو التالي:

الصف الأول يختار العولمة التي يلتقي فيها ما في الأعيان وما يتقدم فيه أثر أدوات الفعل العيني ومفعولاته: تقبل كلها الرد إلى مفهوم واحد هو الرزق بمعنييه المادي والرمزي (باب المقدمة الخامس يضع نظريته ويصلها بمفهوم الاستخلاف)[40] وبسلطاننا عليه وسلطانه علينا (ويؤسس الكل في الباب السادس في كلامه على العلم وتطبيقاته)[41] وذلك هو موضوع العمران البشري بمصطلح ابن خلدون.

الصف الثاني يختار العولمة التي يلتقي فيها ما في الأذهان وما يتقدم فيه أثر أدوات الفعل الذهني ومفعولاته: تقبل كلها الرد إلى مفهوم واحد هو الذوق بمعنييه المادي والرمزي وبسلطاننا عليه وسلطانه علينا وذلك هو موضوع الاجتماع الإنساني بمصطلح ابن خلدون.

وهذه العناصر تصبح بالمصطلح الخلدوني ممثلة لصورة العمران (السياسة والتربية) ولمادته (الاقتصاد والثقافة). فيصبح الجدول على النحو التالي بمصطلح ابن خلدون ومكوناته تقبل التقديم والتأخير السابقين كذلك رغم أن ابن خلدون يرفض الموقفين ويعطينا موقفا آخر يختلف عنهما بإطلاق نحاول وصفه وبه نختم لئلا يبلغ تجاوزنا الحد المشروط حدا لا يطاق. فإذا عدنا إلى الصوغ التلخيصي في جداول الصوغ الذي ختمنا به المسألة السابقة للعبارة عن الفاعلية المعولمة وأدواتها فترجمناه بالمصطلح الخلدوني كان لنا ما يلي:

الشكل الأول يقدم المادي على الرمزي في صورة العمران ومادته


صورة العمران

الدولة

التربية

مادة

العمران

الاقتصاد

سلطان الرزق المادي

سلطان الرزق الروحي

الثقافة

سلطان الذوق المادي

سلطان الذوق الروحي

الشكل الثاني يقدم الرمزي على المادي في صورة العمران ومادته


صورة العمران

التربية

الدولة

مادة

العمران

الثقافة

سلطان الذوق الروحي

سلطان الذوق المادي

الاقتصاد

سلطان الرزق الروحي

سلطان الرزق المادي

لكن الترتيب الثاني إذا أهمل دور الترتيب الأول يعبر عن أحلام اليتوبيات سواء كانت مادية (ماركس) أو مثالية (مور): فيكون الذوق وسلطانه قبل الرزق وسلطانه. لكن الحل الخلدوني المستوحى من القرآن يرفض التقديمين ويقترح حلا يمكن بصورة وجيزه وصفه بمجرد استخراج بنية المقدمة. فرغم أن ابن خلدون في تسمية علمه قد قدم الرزق وسلطانه على الذوق وسلطانه وقابله بالتقديم المعمول به في اليتوبيات الفلسفية (مشيرا بالاسم للمدينة الفاضلة وجمهورية أفلاطون) فإن ذلك ظاهر من الأمر لأنه في الحقيقة جمع بين الحالتين كما يتبين من بنية المقدمة التي تضع نظرية العمران أي نظرية استعمار الأرض بالمعنيين الموجب أو السالب دون اهتمام بالحكم الخلقي لهذه المقابلة أو العولمة إلا في المعنى الذي سنراه لاحقا: معنى قتل الثقافة للحياة أو قتل الحياة للثقافة أو قتل صورة العمران لمادته أو قتل مادة العمران لصورته.

فالباب الأول من المقدمة اسمه في العمران على الجملة هو كلام في نوعين من الشروط: الشروط الجغرافية والمناخية للمعمورة ثم الشروط الرمزية والمخيالية لنشأة العمران. ووصفه بكونه على الجملة لأنه يبقى مؤثرا في صنفي العمران البدوي والحضري. والدليل أن ابن خلدون لم يعتبره الأول عند تبرير خطة الكتاب بل اعتبر العمران البدوي باب كتابه الأول. فتبقى أبواب خمسة: خذ الباب المتعلق بالمدينة واعتبره القلب فستجد أن قبله بابين هما باب العمران البدوي وباب الدولة وبعده بابين هما باب الرزق والصنائع وباب العلوم والتربية والآداب.

وستكتشف أن البابين المتقدمين على المدينة يدرسان شرطي قيامها الحيوي (بشر وغذاء) والسياسي أعني تأسيس السلطان الزماني (الدولة) وأن البابين المتأخرين يدرسان شرطي قيامها الحيوي (بشر وغذاء) والروحي أعني تأسيس السلطان الروحاني(التربية). والفرق بين نوعي الفاعلية هو أن الأولين متقدمان على المدينة ويصلانها بالقسم الأول من باب العمران على الجملة أعني بالشروط الطبيعية فيعدان فاعلية يغلب عليها قانون التاريخ المادي والثانيين متأخران عن المدينة ويصلانها بالقسم الثاني من باب العمران على الجملة أعني بالشروط النفسية فيعدان فاعلية يغلب عليها قانون التاريخ الرمزي.

فتكون المدينة بالمعنى الخلدوني لا اليوناني أي الحاضرة لا الدولة هي رمز التفاعل بين القانونين الطبيعي والخلقي أو المادي والرمزي. فهي بطبقاتها الدنيا وبمحيطها الطبيعي تمثل ما يرمز إليه العمران البدوي أعني سلطان القانون الطبيعي والمادي وبطبقاتها العليا وبمحيطها الثقافي تمثل ما يرمز إليه العمران الحضري أعني سلطان القانون الخلقي والرمزي.

فإذا فسدت هذه العلاقة انقلبت الآية. فتصبح الحضارة بحاجة إلى التجدد بعامل خارجي أو ما يسميه ابن خلدون بتجدد الخلق أعني الانقلابة التي تنقل من خلق قديم إلى خلق جديد والتي يعتبر نفسه على مشارفها ولذلك قرر كتابة ما كتب. ويسمى هذا بمصطلح فلسفة التاريخ الدينية مرحلة الاستبدال والاستخلاف: الصف الأكثر تحضرا هوالمستبدَل لفساد كيانه العضوي (قلة التناسل والشيخوخة) والنفسي (الإعياء الوجودي أو العدمية) والصف الأقل تحضرا هو المستخلَف لحيوية كيانه العضوي (كثرة التناسل والشباب) والنفسي (الدفق الوجودي والأمل).

لكن الأهم من ذلك كله هو أن كلام ابن خلدون لا يتعلق بجماعة جزئية معينة بل إن كلامه يصح على كل جماعة معينة وعلى الجماعة البشرية ككل: أي إنه عند ابن خلدون منطق تاريخ البشرية أو منطق استعمار الأرض وهو يعتبره سنة كونية لن تجد لها تبديلا أو تحويلا. وهو يؤيد ذلك بالنموذج الفيزيائي[42] الذي يضربه لتفسير مفعول العصبية بشرط اعتبار تلازم مقوميها[43]. ولا أحد بقادر على الإفلات من هذه المعركة.

لكن ذلك لا يعني أنه ليس للإرادة أثر في التاريخ فنقول كمن يقول بالجبرية التاريخية. ما هو إرادي من الأفعال في هذه المسألة فهو قبول أمة ما التحدي أو عدم قبوله عندما تكون في وضعية تجعلها من اللاعبين في تحديد آفاق التاريخ الكوني: فالأمة ذات الإرادة الحرة تقبل التحدي وتخوض المعركة والأمة المستعبدة تستسلم.

وهنا يأتي دور الحديث (معتقدات الأمة حول دورها التاريخي) في حدوث (لحظة الرهان) الحدث (علاقة تاريخ الأمة بتاريخ البشرية في الفعل). ولما كنا قد بينا في مستوى العلاج الأول أن الشعوب التي تُنسب إليها العولمة الإمبريالية هي نفسها منفعلة بهذا الأصل العميق مثل جميع شعوب العالم الأخرى فإن المسألة ينبغي أن تعود إلى أمر يتعالى على المقاصد الواعية فيكون ذا صلة بفلسفة التاريخ وفلسفة الدين: فما وراء العولمة ذو طابع تغلب عليه الآلية العمياء وهو السر في منطق التعولم الذي يخرجها من تصورها معركة جيوساسية أو جيوثقافية بين الشعوب والحضارات إلى معركة وجودية في ذات الإنسان تكون في عروض التاريخ صراعا بين شعوب وثقافات وطبقات إلخ .. لكنها في الجوهر نظام من العوامل في كيان الإنسان العضوي والنفسي علمها شرط في العلاج المفيد الذي ينبغي طلبه من محله الطبيعي.

ومعنى ذلك أن الانتساب إلى هذا الصف أو ذاك ليس أمرا إراديا أو اختيارا واعيا بل هو نوع من القضاء والقدر التاريخي لكن تحمل مسؤولية ذلك الانتساب والقيام بأعبائه إرادي وهو جوهر الانتقال من الانفعال إلى الفعل:

فالعرب والمسلمون لم يختاروا أن يكونوا الوسط المطلق في جل ما يتعلق بالمعمورة. فجل الطاقة في أرضهم وجل الممرات فيها وكل المشاعر الدينية فيها فضلا عن نزولهم في ملتقى القارات الثلاث التي صنعت التاريخ الإنساني قديمه وحديثه فكان تاريخهم لذلك متوسطا بين القديم وما قبله والحديث وما بعده.

لكنهم اختاروا أن يبقوا على ما لديهم من طموح لاستئناف دورهم التاريخي الكوني وهم يقاومون لاسترداد هذا الدور وتلك هي علة الحرب عليهم واعتبارهم من عوائق اكتمال العولمة الإمبريالية. فيكون خيارهم هذا هو العائق وليس مجرد منزلتهم القدرية.

لذلك فالحرب الحالية ستكون محددة لمستقبل العولمة بمعنيين كلاهما محكوم بنتيجة حرب المطاولة بينهم وبين سيدي العولمة الحاليين:

الأول: في حالة الذهاب بالحرب إلى غايتها ستكون نهايتنا ونهاية سيادة الولايات المتحدة وإسرائيل على العالم لأن الأقطاب الأربعة المحيطة بالعالم الإسلامي تكون قد وجدت الفرصة لاقتسامه وإخراج الولايات المتحدة منه ونعود نحن إلى مستعمرات هذه الأقطاب الأربعة: اثنان شرقا هما الصين والهند وإثنان غربا هما روسيا المتحدة وأوروبا المتحدة.

الثاني: في حالة الوصول إلى حل وسط بين الصفين تتحقق الكونية التي يتوازن فيها القانونان قانون التاريخ الطبيعي ممثلا بالأقوى ماديا والأضعف روحيا (الولايات المتحدة وإسرائيل) وقانون التاريخ الروحي ممثلا بالأضعف ماديا والأقوى روحيا (العالم الإسلامي والعرب) فيعم السلم ويرتدع الأقطاب المحيطة بالعالم الإسلامي فلا يتقاسمون السلطان عليه كما هو متوقع في الحالة السابقة.

لم يكن الهدف من هذا العلاج الثاني عمليا رغم غلبة الوجه العملي عل دوافعه. إنما هو ذو منظور نظري خالص: الهم العملي هو الدافع لكنه ليس الغرض المباشر للبحث حتى وإن عدنا إليه بصورة غير مباشرة للعلاج المستند إلى النظر. ما يعنينا بالأساس هو إثبات القضيتين التاليتين وما يترتب عليهما في المستوى العملي:

1-أن آليات العولمة والكونية متقدمة على الآليات الداخلية والخصوصية في التاريخ الإنساني من البداية إلى الغاية وأنها ليست أمرا اختياريا بل شبه مصير قدري. لذلك فهي ذات صلة بفلسفة التاريخ وفلسفة الدين.

2-أن آليات العولمة هي عينها آليات القيام الوجودي للإنسان سواء كان فردا أو جماعة. ومن ثم فهي التي ينبغي أن نفهم بها كل مستويات العلاقات البشرية وخاصة أحداثها وأحاديثها أي مجرياتها ومجريات قص أصحابها لها.

أما ما يترتب على هاتين القضيتين بخصوص العلاقات بين الأمم ودور الأمم في التاريخ الكوني فيمكن أن يكون مادة لبحث آخر منطلقه ما توصلنا إليه من نتائج أهمها أن فعل الأمة الإرادي لا يتعلق بمحددات قيامها أعني منزلتها في الأحياز الوجودية المشتركة مع الأمم الأخرى أعني في ما يوحد المعمورة (الزمان والمكان والدورة الاقتصادية من حيث مجراها الفيزيائي والدورة الاقتصادية من حيث شروط مجراها التواصلي والاتصالي) بل هو يتعلق بفلسفتها الوجودية: أي ما تؤمن به من قيم تجعلها تعتقد أنها ذات رسالة في التاريخ الكوني أم مجرد كائنات على هامش التاريخ.

الخاتمة

تلك هي الإشكالية التي حاولنا فهمها ما استطعنا إليه سبيلا منطلقين من تحليل ضمائر الخطة التي اقترحها المركز وتلقيتها منه بدعوة خاصة من رئيسه الصديق والأخ الأكبر الأستاذ خير الدين حسيب. ولما كان هذا الإطار شديد السعة ويدخل إلى المسألة من هموم الحاضر التي يغلب عليها الوجه الجغرافي السياسي فإني بدأت بتحليل سريع أردته منصة تحقق النفاذ إلى جوهر الإشكال في العولمة لذاتها لنفهم علل ما تتصف به في هذا المستوى الجغرافي السياسي الذي هو أحد أعراضها وليس من عللها. وقد تضمنت الخطة ما ساعدنا مساعدة فعلية في تحرير المفهوم إذ يمكن أن نستخرج منها العناصر التالية:

فرعين سياسيين روحيين متعارضين:

1-"إدراك ما يتزاحم عليه من معان في الجدل السياسي الدائر الآن والكشف عما يلتبس به من معاني التقدم والرشد والأخوة الإنسانية.

2-وما يلتبس به أيضاً ويستخدم فيه من معاني السيطرة للدول القوية على الشعوب المغلوبة،

فرعين ثقافيين اقتصاديين متعارضين كذلك:

3-كما يشمل التمييز بين ما يشكل تقدماً إنسانياً عالمياً وبين ما يعتبر سيطرة للثقافات على ثقافات أخرى. مع تبين ما يصاحب السيطرة الثقافية الحضارية من إحاطة بالضغوط الاقتصادية وتهديد بالقوى العسكرية،

4-وكذلك تبيّن نقيض ذلك من مقاومة لأدوات السيطرة وانفتاح على الإنتاج العلمي والثقافي الحديث".

فكان ذلك منطلقا جيدا لطلب الأصل الموحد بين هذه الفروع ما هو أعني ؟

5- لماذا حصلت العولمة الآن ؟ ولماذا هي على هذه الصورة ؟ وما علاقتنا بها ؟ والجواب عن هذه الأسئلة هو الذي سيبين أن العولمة لا يكفي أن تدرس من مدخل السياسة الدولة والعلاقات بين الدول ولا حتى من حيث العلاقة بين الشعوب. فهي من أعرض الكونية التي هي جوهر الوجود الإنساني وأصل العلاقات بين البشر سواء كانوا داخل نفس المجموعة أو بين المجموعات تنبع من هذا الأصل.

فالكونية من حيث هي قيمة خلقية: تنتسب إلى تاريخ الإنسان الخلقي في كل الحضارات: فقد كانت ولا تزال حلما إنسانيا يدل عليه أمران متعلقان بحد الإنسان نفسه قصدت النطق: فأسطورة اللغة الأصلية الواحدة وهم وضع لسان كوني للبشر ل يفارقا الذهن الإنساني بل هما يمثلان معنى مفهوم الإنسان نفسه.

والكونية من حيث هي واقعة تاريخية: تنتسب إلى تاريخ الإنسان الطبيعي: فقد كانت ولا تزال شبة تحقيق متدرج للتوحيد بالإلغاء: أي إن الأقوى يستوعب الأضعف بآليات معلومة لعل أفضل أمثلتها الحية التي عشناها مرتين هي تكون الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.

والسؤال: هو كيف التوفيق بين مجرى التاريخين من حيث تعبيرهما عن الكونية بمعنييها؟ وهل يكفي لتحقيق ذلك الرد على العولمة بمقابلة إيديولوجيا العولمة بإيديولوجيا تناقضها أم إن العولمة من حيث هي واقعة تاريخية لا علاج لها إلا بما هو من جنسها فيكون التاريخ صراعا لا يتوقف بين القوى يبقي البشرية خاضعة لقانون التاريخ الطبيعي فيمنع كل تقدم خلقي ؟ الجواب هو في بيان صلة معنيي استعمار المعمورة الموجب والسالب أحدهما بالآخر وبه نختم القول في المسألة:

فالمعنى الإيجابي من الاستعمار هو عمارة ما ليس معمورا من الأرض. والمعنى السالب هو إخلاء المعمور من الأرض مما فيه من عمارة واستبدالها بعمارة أخرى تعتبر وجودها ملغيا لوجود السابقة كما فعل من أفنى الهنود الحمر ويسعى لإفناء الفلسطينين. فيكون المعنى الجامع بين المعنيين مضاعفا:

فهو من حيث مادة الفعل ومجاله علاقة بالمعمورة من حيث هي أرض بكر: الأول شرطه إصلاح المغمور بإزالة الصحراء من العالم وإخصاب اليباب منه والثاني شرطه إفساد المعمور فيصحر العالم ويعقم الولود منه في الغاية رغم ما يبدو في البداية من تخصيب مثير للإعجاب (وغاية ذلك الاحتباس الحراري).

وهو من حيث صورة الفعل تحقيق للكلية هو في الموجب جمع المتعدد حتى صار من المبادئ الدينية من ثم فهو سعي لإزالة التنافي وهو في السالب نفي المتعدد ومن ثم فهو سعي لإزالة التنوع في المحيطين الطبيعي (القضاء على تعدد الأنواع النباتية والحيوانية) والثقافي (القضاء على تعدد الألسن والأديان وكل التعابير الثقافية).

فتكون الصورة مترددة بين السعي إلى وحدة التنويع والسعي إلى وحدة التعطيل. وتكون المادة مترددة بين إحياء اليباب في الغاية وهذا هو المفهوم الموجب من العمران الحضري عند ابن خلدون وتصحير الغابات في الغاية وهو المعنى السالب من العمران البدوي عنده: والأدوات في الحالتين المادية والصورية موجبهما وسالبهما هي الأدوات الرمزية أي الفنون الجميلة والمعتقدات محرك الثقافة المستندة إلى القناعة وهي الأدوات المادية أي الفنون الآلية والأسلحة محرك الاقتصاد المستند إلى المجاعة.



[1] قدمت هذه الورقة في الملتقى القومي الإسلامي الذي عقد في الإسكندرية مؤخراً، أنظر ورقة الندوة التوجيهية.

[2] فلا تستطيع أي جماعة معينة أن تختار سياسة تخصها إلا إذا عادت إلى الحماية لأن كل فعل صار تفاعلا عالميا. والعودة تخرجها من السوق فتكون النتيجة عكسية. وهذا أمر تعاني منه سياسات البلاد النامية في مشكلة الدعم والبلاد المتقدمة في مشكلة الحقوق الاجتماعية بسبب التنافس عامة ومنافسة البلاد الآسيوية التي غلبت الجميع بكلفة العمل المتدنية مع الكفاءة المساوية لما في الغرب. ولعل الاحتجاج على الليبرالية الجديدة (بالمعنى الاقتصادي الأوروبي لا العقدي الأمريكي) دليل على عدم إيلاء هذه الظاهرة ما تستحق من اهتمام. فنقد بورديو لهذا التوجه يبدو دفاعا عن الحقوق الاجتماعية -وهي امتيازات بالقياس إلى ما يجري في العالم الثالث-ضد المفعول الآسيوي: وهذه الحقوق صارت عبئا على اقتصاديات أوروبا بمقتضى التنافس المفتوح: أنظر مثلا هذا النص المنتخب من أحد أعماله ينقد فيه السياسة الليبرالية الجديدة في أوروبا الغربية وصلتها بالحقوق الاجتماعية:Bourdieu’s criticism of the neoliberal Philosophy of Development, the Myth of Mondialization and the new Europe (An Appeal for the Renewal of Critical Sociology) in Facta Universitatis

Series: Philosophy, Sociology and Psychology Vol. 4, No1, 2005, pp. 37 - 49

[3] من الإستراتيجيات الفعالة ما فهمته قادة أوروبا القارية بعد الحرب العالمية الثانية. فهموا أن أوروبا خرجت من التاريخ العالمي الذي تعولم لأنها فقدت شروط الفعل المؤثر فيه بالقياس إلى القطبين اللذين ربحا الحرب ولم يبق مؤثرا سواهما. لم تعد قادرة على حماية نفسها فضلا عن مستعمراتها وعن مقاسمة القطبين الفريسة اعني باقي العالم. فلم يحتجوا خلقيا أو يستعملوا الإرهاب غاية للاحتجاج بل شرعوا في تحقيق شروط العودة للفعل المؤثر في التاريخ: التحرر مما أوصلهم إلى هذه الوضعية وبناء الكيان ذي الحجم القادر على تحقيق شروط الفاعلية التي بحجم القطبين أعني الفاعلية التي تمسح العالم كله وأولها المشروعات العلمية التقنية والاقتصادية والعسكرية التي من دونها لا معنى للفعل في التاريخ.

[4] فلسفة السياسة والتاريخ والدين في الفكر العربي الإسلامي وصلتها بالرؤية القرآنية لاستعمار الأرض والاستخلاف فيها. فهذا يكاد يكون من المحرمات في عرف مفكري العرب الحداثيين لكأنه من حق هيجل وماركس وكل فيلسوف تاريخ ألا يهمل البعد الديني ومن واجب كل مفكر عربي أن يهمله لئلا يتهم بالإسلام فضلا عن الإسلاموية !

[5] والأدهى أن الذين يتهمون العودة إلى فلسفة السياسة والتاريخ والدين في الفكر العربي بالماضوية لا يستحون من تمجيد العودة إلى ما قبل سقراط في محاولات إحياء الفكر الفلسفي الغربي فضلا عن العودة إلى أرسطو وأفلاطون في النهضة الغربية. فيكون تقليدهم لهذه العودة نهوضا وتقدما ومحاولة فهم الوعي العربي الحالي بصفائحه المتراكمة في الوعي واللاوعي العربيين والإسلامييين ماضوية رغم أن ما يجري لا يمكن أن يفهم من دون ذلك ! ما الحيلة مع السخف إذ يصبح سيد العارفين ؟

[6] المعنى الدقيق لكلمة الحديث هو الخبر الصحيح عن الحدث وليس القصد المعنى المقصور على حديث الرسول الأكرم.

[7] بالمعنى الخلدوني للكلمة اعني هوس التوقع والتنبؤ حول المستقبل وخاصة في السياسة والمآل الجمعي وقد أفرد له فصلا مطولا يحلل فيه صلته بكل أصناف التعبير المخيالي في كل الحضارات. ويعود الأمر كله إلى حصر Anxiety الزمان والخوف من المستقبل والموت.

[8] من دلائل الإعجاز في قلة الفهم عدم فهم منزلة علوم اللسان والأدب في المقدمة وعلة تمثيل ملكة الإبداع رمزا إليها بالذوق الشعري ذورتها وغايتها. وللأمر بموضوعنا وطيد الصلة لذلك فسنتكلم عليه في مستوى العلاج الثاني.

[9] لهذه العبارة معنيان متلازمان : معنى التجربة ذات القزحة الروحيةErlebnis رغم عينية الوجود الفعلي ومعنى الحال الوجدانيةBefindlichkeit التي تحدد أفق الفهم.

[10] فضلت كلمة معاناة على كلمة عيش أو تجربة لأن هوس الخيالي في حياة الإنسان يمكن أن يكون أكثر فاعلية ووقع من الحدث الفعلي وإذن فهي مصدر لمعاناة وجدانية قد يفوق أثرها أثر تجربة الحال. فتكون معاناة الخيال عند الأمم المبدعة متقدمة التأثير والوقع على تجربة الحال لأنها هي التي تبدع الأفق الرمزي الذي يلون ما يسمى بالواقع بما يضفيه عليه الخيال من دلالات ومعان. وهذه الدلالات والمعاني هي ما نريد بعثه بالعودة إلى المرجعية التي قتلتها الإسقاطات السطحية طلبا للمماثلات بين الآفاق الحضارية المختلفة دون إدراك لطبيعة صلتها بالكليات الإنسانية من حيث هي بعض أعيانها في الوجود التاريخي الحدثي والحديثي.

[11] قد يظن من يقرأ دون تدبر أن هذا من جناس البديع. إنما المراد التنبيه إلى صلات الرحم بين المدلولات بما منها بين الدوال. فمن فهم ذلك أدرك السر وتجاوز الشكل إلى المضمون. أما في خلاف ذلك فلكتابة الصحف أولى بالقراءة.

[12] ما من جزء من الحضارة الإنسانية الحالية إلا والكل المتساوق (في المكان) والمتلاحق (في الزمان) حاضر فيه لكأنه مونادة لاينتس مرآة تعكس على سطح نوافذها المشرعة كل الوجود المحيط في الحيزين المكاني والزماني: فأي منتج إنساني هو اليوم من حيث صورته الصانعة ثمرة كل الفكر الإنساني النظري والتطبيقي وهو من حيث مادته المصنوعة يكاد يكون مؤلفا من عينات جاءت من كل أصقاع الأرض بل وأحيانا من خارجها.

[13] كيف أصبحت ثمرات فعل العولمة شاملة للعالم كله بحيث يمكن في مجال العمل مثلا أن تكون بضاعة ما أجزاؤها تصنع في جل مناحي الكرة الأرضية ثم تلتقي في نقطة من المعمورة لتركب فتصبح بضاعة أو خدمة أو خبرة شاركت فيه أغلب الشعوب.

[14] كيف نحلل الفعل الاقتصادي أو الثقافي أو السياسي في العالم الحالي لفهمه بعد أن بات بعده الشامل للعالم من مقوماته الأساسية كما في حركة رأسمال والسوق المالية والعالمية أو البورصات العالمية والمؤسسات المالية والتجارية العالمية إلخ...

[15] أنظر مثلا Jacques Fontanel , La Globalisation en »analyse » Géo-économie et stratégie des acteurs, L’Harmattan 2005

[16] فالكلام على تيارات الاقتصاد وآفاقه في تقارير جمعية الأمم المتحدة حول التجارة والتنمية يجمع الأمرين أعني ظاهرة العولمة ومنظور علاجها العولمي كما في تقريرها لسنة 2001 مثلا: Global Economic Trends and Prospects (UNCTD /GDS/Misc. 21) 01/10/01

[17] سورة هود 61 : قال صالح لثمود: " ...هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها..." والمعلوم أننا في الغاية إليها نعود (سواء آمنا أو لم نؤمن بالمرجع إلى الله) !

[18] ولعل كل أدواء العولمة مصدرها الفهم المالتيسي لهذه النسبة كما سنرى عند الكلام على مفهوم الندرة الفعلية أو الوهمية من حيث هي مبدأ علم الاقتصاد الأول والأخير وخاصة منذ أن تعولم بل هذا المبدأ هو أصل العولمة لأن الندرة الفعلية وخاصة الوهمية هي التي تؤدي إلى استكشاف المعمورة للاستفراد بثرواتها.

[19] ولذلك تحير المترجمون في إيفاء هذا المصطلح حقه. فهو لا يعني الحضارة بل هو يعني أمرين أحدهما ديموغرافي خالص (تكاثر البشر وتناقصهم) والثاني يتعلق بكل وجوه تعمير الأرض. ومن ثم فللأمر صلة بتعمير الأرض بالناس للتآنس كما يبين القسم الثاني من اسم العلم وليس بمنتوجاتهم الحضارية فحسب. فإذا جعلنا هذين الوجهين الماصدق الذي يفهم من تصور الحضارة فحبذا. وإلا فالأفضل أن نبحث عن ترجمة أخرى.

[20] لا وجود لفلسفة في التاريخ تخلو من نظرية في ما بعد التاريخ تماما كما لا توجد فلسفة في الطبيعية تخلو من نظرية في ما بعدها. فالمعرفة العلمية سواء كان موضوعها الطبيعيات أو الإنسانيات أو العلوم الأدوات الضرورية لعلاج هذين الضربين من الموضوعات (أعني المنطق والرياضيات الغالبين على علوم الطبيعة دون استثناء الإنسانيات واللسانيات والرمزيات Semiotics عموما الغالبين على علوم الإنسان دون استثناء الطبيعيات) ممتنعة التصور من دون هذه العلاقة حتى لو حاول البعض الاقتصار على ما بعد العلم من حيث الفنيات المنطقية والمنهجية ومن حيث التكوينية التاريخية والنسقية الأكسيومية للتصورات العلمية بدائل من ما بعد الطبيعة وما بعد التاريخ التقليديين.

[21] مفهوم الندرة الذي هو الموضوع الحقيقي لعلم الاقتصاد ليس بالضرورة أمرا موضوعيا لأن الغالب عليه هو التعبير عن حال وجودية هي خوف الإنسان من فقدان الزاد. إنه تعبير لا واع عن الخوف من المستقبل وفي الغاية من الموت جوعا. وتلك هي العلة في أن أهم عوامل الحركة الاقتصادية هو المؤثرات النفسية على المستهلك والممول والمنشئ الأول خوفا على سد الحاجات والثاني خوفا على المدخرات والثالث خوفا على الرهانات. والادخار ليس هو في الحقيقة مطلوبا لذاته بل لكونه أداة الفعل الحر. فحضور المدخر يغنيك عن الانتظار وتلك علة تقديم الادخار السائل على الادخار المستثمر في أوقات السلم: صاحبه له حرية الفعل السريع. لكن في حالات الحرب يصبح الادخار السائل ورقا لا معنى له ولا تكفي شاحنات العملة لشراء خبزة.

[22] وهو تقابل نسلمه جدلا لتجنب الخوض مع التقاليد الفلسفية. لكنهما في الحقيقة ينطلقان من نفس المرجعية الدينية التي تجعل الإنسان ابن الله يحقق مدينته في الأرض بالروح والنظر خاصة عند الأول وبالمادة والعمل خاصة عند الثاني. وحتى هذه فهي مقابلة تقليدية لا تصمد أمام قراءة هيجل على مكث: فليس صحيحا أن هيجل كان بحاجة لقلبه الماركسي. فهو لا يجعل التاريخ يمشي على رأسه بل هو جدلي مثل تلميذه وأكثر منطقية منه لأن مفهوم الجدل يقتضي أن يكون القانون –وهو ما لا يمكن أن يكون ماديا لكونه بنية مجردة-متقدما على ما هو قانون له أي العناصر المادية التي تخضع له إذ هي تستمد منه كونها فاعله على منوال ما. فلو تصورنا رأس المال من دون قانون المنطق الجدلي الذي يرى المتناقضين متحدين لكانت النظرية الماركسية كلها سخافة.

[23] ولما كانت الأدوات الدبلوماسية والعسكرية لا معنى لها في التحريك الفعلي إلا من حيث هي أدوات تنفيذ فما ينبغي وضعه بديلا منهما في العلاقات بين الدول هو القوة الاقتصادية والتقنية بحيث إن الجغرافيا السياسية تتحدد من حيث قيامها الفعلي بالقوة السياسية من حيث هي معبرة عن القوة الاقتصادية وتتحدد في قيامها القوي بالاستعداد للدفاع عن مصالح اقتصادية خلال تقاسم ثروات المعمورة: وهذا هو الوجه الدبلوماسي والعسكري من الجغرافيا السياسية ما يبتعها من الصداقات والعداوات غير المستقرة. ولهذه العلة اعتبرناهما من أدوات السياسية ووضعنا الاقتصاد مع السياسة في جدول أدوات الفاعلية.

[24] ونفس الشيء كان يمكن أن يقال عن التواصل والتعارف لأنهما في الحقيقة ومن حيث القصد من أدوات التنفيذ الاستعدادي أو المسبق من اجل أهداف الجغرافيا السياسية. لذلك فهو تواصل وتعارف اقتصادي ومن أدل الاقتصاد بالجوهر. لكنه يحقق بالقصد الثاني غايات خلقية هي التواصل والتعارف بين الشعوب لذاتهما فيصبح الاقتصاد أداة بدل من أن يكون غاية: ولعل أفضل ممثل لهذا هو الاثنولوجيا وعلم اجتماع الشعوب والسياحة. فهي تحقق التعارف والتواصل رغم دوافعها الاقتصادية والسياسية. ولهذه العلة نبقى عليها في جدول أدوات الفاعلية.

[25] الجمع الجدلي بين المنظورين هو الذي يزاوج بين الحركية في المستوى الرسمي بين الدول والمستوى غير الرسمي بين الشعوب كما في حركات المنظمات الدولية غير الحكومية. لكن المنظورين متداخلان لمن يتابع: فالدول الغنية توظف المنظمات الدولية الرسمية والشعبية لأجنداتها الخفية كما هو بين لكل ذي بصيرة.

[26] لست بحاجة إلى الاستفاضة في المعلومات الببلوغرافية فهي متوفرة في أي موسوعة فضلا عنها عند من اختصاصه البحث في أصناف العولمة. ما يهمني هو تحليل آلياتها أكثر من الكلام في ما كتب حولها تحليلها بمنطق يقربها إلى الصوغ المجدول. إذ ليس مطلوبي كشفا عن الدراسات بل مدخل لفهم موقعنا كعرب ومسلمين من القضايا التي تطرحها هذه الآليات فضلا عن كوني لا أزعم التخصص في الكلام على العولمة من خارج اختصاصي الفلسفي.

[27] بعض الملاحظات حول هذه المسألة لا يتسع لها المجال نجملها في هذا الهامش دون مزيد تحليل: ملاحظة 1: لا بد من تقديم الجدول الأول واعتبار الثاني تابعا لأن العكس يبدو مستحيلا. ملاحظة 2: في داخل الدول الديموقراطية يبدو العكس وهو غير صحيح أي إن القاعدة عامة. والفرق هو أن الخارج يتقدم عليه أسلوب الحرب على السلم لا غير. والداخل العكس: لكن ما يجري فعلا واحد. ملاحظة 3: في كلا الجدولين الرمزي هو المقدم على المادي وغير المباشر هو المقدم على المباشر لأنه يجمع بين الفاعليتين كما هي خاصية العمل على علم .ملاحظة 4: علة تخلف الشعوب المتخلفة هو غياب هذه العلاقة واقتصار الرمز فيها على الفعل السحري لأنه ليس علما نظريا يؤسس للعمل بل معرفة خرافية تغني عن العمل الفعلي بالوهم. ملاحظة 5: ومن هنا مشكل المشاكل: مشكل القيادات في هذه المجالات كلها أعني النخب التي ينبغي فهم كيف تأثيرها في المقومات الأربعة المضاعفة.

[28] قدمنا استعمال مصطلحات مستمدة من فلسفة التاريخ الخلدونية لأنها حسب رأينا أكثر فاعلية تصورية لتحليل الظاهرة بشرط أن نصل أمر العولمة بما بين فلسفة التاريخ وفلسفة الدين من صلات بالمعنى الخلدوني أو حتى بالمعنى الهيجلي الماركسي لمن يخشى تهمة الماضوية.

[29] حب التأله. مبدأ يفسر به ابن خلدون في الكثير من مواضع المقدمة أمرين يبدوان متنافيين: نزوع الإنسان إلى الحرية المطلقة ومن ثم تحول هذا النزوع إلى الاستداد المطلق. وهو يطبقه في بعدي صورة العمران أعني الزماني أو الدولة والروحاني أو التربية وكذلك في بعدي مادته أعني الاقتصاد أو الإنتاج المادي والثقافة أو الإنتاج الرمزي.

[30] لماذا النسبة إلى البشر والإنسان عامة ؟ ثم لماذا الجمع بين العمران والاجتماع ؟ لو كان ابن خلدون يدرس التاريخ العربي الإسلامي فحسب لكانت النسبة إلى البشر والإنسان مجحفة بالموضوع. ولو كان الموضوع واحدا لكان التكرار دالا على عدم وضوح الرؤية عند الرجل. والجواب يفهمنا خطأ المرحوم عبد الرحمن بدوي لما ظن علم ابن خلدون مستندا إلى استقراء. لكن منهج ابن خلدون ما هو بالاستقرائي لأن الأمثلة من التاريخ العربي الإسلامي تمثل للنظرية ولا تؤسسها استقراء. والظن بأن الإسمين مترادفين سببه عدم الانتباه إلى ثنائية الموضوع حقا: فهو أولا علم التساكن لقضاء الحاجات في مستواه الأول لذلك فهو علم العمران البشري وهو بالأساس نسبه إلى المعمورة من حيث هي مصدر الرزق والعيش الذي هو موضوع التعاون. وهو ثانيا علم التساكن للتآنس في مستواه الثاني لذلك فهو علم الاجتماع الإنساني وهو بالأساس نسبة إلى المنتسبين إلى المعمورة أي كيفية العيش بين المتعاونين: هل هي للتآنس فتقضى الحاجات بالتعاون أم للتواحش فتقضى بالتنافس؟ والمستوى الثاني من الموضوع يقبل الوصف بأنه كيفية اجتماع وليس كيفية تعمير. وحتى لا نخرج عن الموضوع يكفينا هذه التمييزات الدقيقة التي ما كنا لنحتاج إليها لو كان الناس يقرأون النصوص دون عاهة التناص المرضية: لم يكن مطلوبهم فهم ابن خلدون بل البحث عن ماركس أو أوغست كونت أو نظرية أخرى فيه.

[31] أي إن الولايات المتحدة وإسرائيل لا يفعلان ذلك لأنهما يمثلان الشر والعرب والمسلمين يمثلون الخير بل لأن المقومات التي تتألف منها المعادلة التاريخية للصفين تجعل الأخيرين عائقين أمام سيادة الأولين على العالم وتجعل الثانيين يمثلان أمام الأولين عائقين لاستئنافهما الدور التاريخي الكوني: المعركة وجودية بين معادلتين ولا دخل للوعي ولا للخير والشر لأنها ليست خلقية رغم أن الأخلاق من كلا الجانبين تستعمل للتعبير عن المفاضلة بين الصفين فيكون كلا منهما خيرا وعدوه شرا. المشكل كله: أن معادلة الوضعية الوجود العربي الإسلامي تجعل أنه لا يمكن للعرب والمسلمين أن يستأنفوا دورا تاريخيا كونيا متحرر وغير تابع ما ظلت إسرائيل موجودة بشكلها الحالي (قوة عظمى) وما ظلت أمريكا تحقق شرط ذلك بمنع العرب والمسلمين من أن يصبحوا قوة: أي لا بد لأمريكا من نزع سلام مليار ونسف للحفاظ على سلطان إسرائيل المطلق في المنطقة.

[32] أي إن العرب والمسلمين لا يفعلون ما يفعلونه الآن لأنهم خيرون ويريدون أن يحرروا البشرية بل لأنهم من دون ذلك يتخلون عن الوجود الحر والمستقل: من دون حرب المطاولة مع الولايات المتحدة وإسرائيل يستحيل على العرب والمسلمين أن يعودوا ثانية للتاريخ الكوني. فهذه فرصتهم الوحيدة: فما داموا يمثلون بأرضهم وبما فيها مفتاح بقاء سيادة الصف المقابل على العالم فإن المشكلة ينبغي أن تكون إما أن نكون معكم سادة أو فلنذهب جميعا الجحيم وليأت الأسياد الذين تستعدون لهم ليسودوا عليكم وعلينا. إما التحالف أو التلاغي. فتكون الولايات المتحدة التي نشأت بالقضاء على شعب بدائي ستنتهي بقضاء شعب متحضر تبدى ليقضي عليها.

[33] وذلك هو مدلول آية الردع القرآنية سورة الأنفال 60.

[34] وهذه الظاهر هي فاعلية استعمار الأرض بالقوة وتقدم الخارج على الداخل في الشأن الإنساني دائما حتى لو تصورنا العالم كله لا يسكن فيه إلا قبيلتان مهما تباعدتا: فالمجال الحيوي لكل منهما هو ما يمكن أن تأخذه من الأخرى عنوة إذا كان تحت يدها أو قبلها إذا لم يكن تحت يدها فيصبح محل نزال. ومن ثم فالسياسة الدولية متقدمة على السياسية الداخلية دائما: وبصورة أدق يكون السياسي في الداخل حريصا على تحقيق وحدة تحميه من الخارج فيكون هم الخارج متقدما على هم الداخل ومحددا لشروط نظامه.

[35] كل من له علم بالتاريخ وبالمنطق يفهم أن هذين الصنفين هما الحدان. والجدل الانتخابي يجعل كلا منها إن لم ينقسم ذا جناحين يمين ويسار مع مترددين بينهما يؤلفون الوسط. فتصبح أصناف الأحزاب خمسة باجتماع الوسطين بين قسمي الحدين إذا انفصل يمينه عن يساره. ثم تجتمع الأحزاب في تشكيلة جديدة: يتلقي يسار الليبرالي ويمين الاشتراكي ويتلقي أقصى يسار الاشتراكي وأقصى يمين الليبرالي فيمثلان الهامش تعبيرا عن مطلق التاريخ الطبيعي ومطلق التاريخ الخلقي. بحيث تصبح الأحزاب المتداولة على الحكم اليمين الذي يأخذ من الاشتراكية بعض القيم الاجتماعية واليسار الذي يأخذ من الليبرالية بعض القيم الاقتصادية فيحكمان بالتداول مع الاتفاق على حدين لا يتجاوزانهما كما هي الحال في الغرب كله أدناه (أوروبا) وأقصاه (الولايات المتحدة): المجال الحيوي في الخارج أي مجال المستعمرات والمجال الحيوي في الداخل أي عدم المس بالامتيازات إلى حد يحول دون الوصول إلى الحكم أو البقاء فيه. فيحصل الجمود وينتقل المجتمع من التغير الكيفي إلى ما يسمى اللامتناهي الفاسد أي التغير الكمي بغير غاية دائما على حساب المجال الحيوي الخارجي.

[36] وقد يفهم البعض من هذا الكلام أمرين لم نقصدهما: الأول هو أننا بذلك نتهم أخلاق القائلين بهذا النظام والثاني أننا نبشر بنظام بديل. وليس أي من هذين الأمرين مقصدنا: ما نعنيه هو بيان طبيعة الأزمة لا غير. أما الحل البديل فليس هو مطلبي الآن وهو في كل الأحوال أمر يهم الإنسانية كلها وليس العرب والمسلمين وحدهم: ما النظام الذي يمكن أن يحقق استعمار الأرض للجميع فيرعاها ويرعى الجميع دون أن يفسدها أو يفسد فيها فيكون حقا خليفة فيها لا ربا عليها ذلك ما يمكن أن يكون سؤال المستقبل الإنساني كله.

[37] والشكلان يطبقان في الداخل أيضا وليسا مقصورين على العلاقة بالخارج: فالشكل البدائي من الاستغلال هو التعامل مع العمال قبل أزمة 29. لكن بعد أزمة 29 جاء حل النيوديل ثم نظرية كايناس في تدخل الدولة الرأسمالية وتحويلها إلى ما يمكن أن نسميه بالدولة الحاضنة من دون الحاجة إلى خرافة دكتاتورية البروليتاريا لأن البديل هو دكتاتورية العجل الذهبي: دولة الرفاه تجعل العمال عبيدا باختيارهم. فكل منهم يرهن حياته كلها بما يقدم له من قروض فيصبح مضطرا للخضوع لرب العمل كامل حياته حتى يسدد ما اقترضه مع الربا الذي يرفعه إلى أضعافه حتى يعيش وهم الرفاه المادي. ونفس المعادلة تطبق على الدول الفقيرة.

[38] وهذه مزية ثانية للاسم العربي: فليس هو مقصورا على الأرض بل هو متعلق بالمعمور بالفعل أو بالقوة في الكون كله أعني ما يدور عليه التنافس المؤدي إلى التواحش بين البشر وكان ينبغي أن يكون مجال التعاون من أجل التآنس لو تخلص الإنسان من النظرة التي جعلت علم الاقتصاد يعتمد على مفهوم الندرة بدل مفهوم المناسبة بين العمارة والمعمرين.

[39] أبو نصر الفارابي كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة المطبعة الكاثوليكية بيروت 1959 ص. 96:"

[40] الاستخلاف في الباب الخامس.من المقدمة في علاقته بالعمل من حيث سلطان يسخر الطبيعة لسد حاجات الإنسان.

[41] الاستخلاف في الباب السادس في علاقته بالنظر وتطبيقاته التي تمكن من تسخير الطبيعة.

[42] فهو يقيس المفعول بالدوائر التي تحصل في بركة الماء عندما نلقي فيها حصى. فتكون خارطة الدوائر المتقاطعة على سطح الماء فيزياء القوى المتصارعة في المعمورة وهي متصارعة على الرزق (وأصله الشوق الغذائي) والذوق (وأصله الشوق الجنسي) والسلطان عليهما تصارعا يحكمه الخوف من الندرة ومن ثم الميل إلى الاكتناز والاستفراد والاحتكار.

[43] فمن حيث هو قوة لا غير ليست العصبية موضوع علم ابن خلدون لأنها ليست بعد سياسية بل هي طبيعية وهي مفضية للهرج. ما يجعلها قوة سياسية هو جمعها بين اللحمة والشرعية. لذلك كانت ذات صنفين مضاعفين: فصنفها الأول لحمة مستمدة من صلة الرحم ولها مستوى أدنى هو القبيلة ومستوى أقصى هو الأمة الإثنية تبدأ بأولهما وتثلث بالثاني. وصنفها الثاني لحمة مستمدة من صلة الولاء ولها مستوى أدنى هو الولاء المصلحي ومستوى أقصى هو الولاء العقدي. وهي تثني بأول هذين وتختم بالثاني. وإذا كان الولاء العقدي كونيا فإنها تعني عقدية الأخوة الإنسانية حيث يمكن للعصبية أن تجمع إثنيات مختلفة كما يفسر تاريخ دولة الخلافة. فتكون الشرعية هي المساواة في صلة الرحم بدرجتيها والعدالة في الولاء بدرجتيه. وطبعا عدم فهم هذه الدقائق يجعل العصبية الخلدونية من جنس القبلية الجاهلية التي هي عنده كما في القرآن ضد تكوين الدول فضلا عن أن تكون أساسا للحضارة.

من الملتقى الفكري