13‏/09‏/2008

صورة المرأة في رسالة الغفران قراءة تأويلية

صورة المرأة في رسالة الغفران قراءة تأويلية ـــ د.أحمد زياد محبّك- سورية

أولاً ـ مقدمة:

تبدو "رسالة الغفران" مغرية بقراءة تأويلية، فقد كتبها المعري (363 ـ 449 هـ ) نحو عام 422 هـ وهو في الخمسين من عمره، جواباً على رسالة من ابن القارح يسأله فيها عن مسائل في الفقه والدين والمذاهب الشائعة في عصره، كما يسأله إن كان الله سيغفر له ما ارتكب من فواحش في عهد الصبا إبان تلقيه العلم في مصر، ويجيبه المعري برسالة غير عادية في بنيتها وطبيعتها، فهي تتألف من قسمين، قد يبدو القسم الثاني عادياً، لأنه يتضمن إجابات واضحة عن تلك الأسئلة، ولكن القسم الأول هو غير العادي، وفيه يبدأ المعري بالرد على ابن القارح ويثني على لغته وكلماته وبيانه، ويسأل الله أن يجعل له جزاء ذلك كله أشجاراً في الجنة، ويمضي فيصف أشجار الجنة وأنهارها وما فيها من نعيم، ثم يصور ابن القارح في الجنة وهو يلتقي الأدباء والشعراء واللغويين، ويدعو الجواري والقيان ليقمن الموائد ويعقدن مجالس اللهو والغناء، "إذ استحق تلك الرتبة بيقين التوبة، واصطفى له ندامى من أدباء الفردوس.. لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين" (ص 168 ـ 169).

واللافت للنظر هو ظهور المرأة في (رسالة الغفران) ظهوراً واضحاً، وبعيداً عن الأحكام السابقة، وعن آراء المعري في المرأة المطروحة مباشرة في أشعاره، سيحاول هذا البحث استجلاء صور المرأة في "رسالة الغفران"، وقراءتها قراءة حرة، للوقوف على تفكيره اللاواعي في المرأة:؟ كيف ظهرت المرأة في رسالة الغفران؟ ومن هن النسوة اللواتي ذكرهن فيها؟ وكيف صوَّرهن؟ وماذا تحمل هذه الصورة من آراء؟ وهل يتفق موقفه من المرأة في رسالة الغفران مع موقفه منها في أشعاره؟ وما الدلالات الخفية وراء ظهورها في رسالة الغفران؟ وما سر هذا الظهور الكثيف للمرأة وهل أكثر النساء كن في الجنة أم في النار؟ وما تأويل خروج بعضهن من ثمر الأشجار؟ وما تفسير انقلاب بعضهن عن الإوز؟ وما سر تلك المآدب والموائد ومجالس اللهو والطرب التي تعقدها الجواري والقيان؟

تتيح رسالة الغفران في الواقع دراسة موقف المعري من المرأة ما لا تتيحه أشعاره، لأنه في أشعاره يعبر عن آرائه ومواقفه صراحة، وبصيغة تقريرية، في حين لا يعبر بهذه الطريقة عن موقفه من المرأة في رسالة الغفران، ولاسيما في قسمها الأول، لأنه في هذا القسم يصور دخول ابن القارح إلى الجنة وتطوافه في أرجائها ولقاءَه الشعراء واللغويين وإقامتَه المآدب ومجالسَ الأنس والطرب والغناء، وإذا ابن القارح في رسالة الغفران بطل الغفران، ينطقه المعري بما يريد إنطاقه، من غير أن يتحمل هو مسؤولية ما يقول، وبذلك يطلق المعري لرغباته من خلال ابن القارح قدراً غير قليل من حرية القول والفعل، ويمارس من خلال شخصه معظم ما لم يكن يريد هو أن يمارسه في حياته، ولكن من غير أن ينقض مبادئه أو يخالفها، مما يدل على حضور وعيه، ولو بقدر.

ثانياً ـ نساء الدنيا:

والمرأة في الغفران على نوعين، نوع من نساء الدنيا، دخلن الجنة بعفو الله ورحمته، ونوع من حور العين في الجنة، خلقهن الله فيها ابتداء، أو انقلبن من طير أو نبات إلى جوار وقيان، ونساء الدنيا على أنواع، فمنهن نساء من الواقع، عشن في عصر المعري، أو عشن في عصور سابقة، ومنهن نساء ذكرن في الأدب، ولاسيما الشعر، وابن القارح يلتقيهن في الجنة، ويحاورهن، وبعضهن يذكرهن ذكراً ولا يظهرن، ومهما يكن فهن كثيرات كثرة واضحة.

فاطمة الزهراء عليها السلام ابنة محمد e.

في هول الحشر يلتقي ابن القارح علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويسأله أن يعينه، فيعتذر إليه، فيلتقي العترة المنتجبين من أتباع فاطمة، فيرجوهم أن يسألوها في أمره، إذ إنها تخرج بين حين وآخر من الجنة لتسلم على أبيها وهو قائم لشهادة القضاء، فيحدثها رجال في أمره أول خروجها، يرجونها أن تعجل في دخولـه الجنة، فتشير إلى أخيها إبراهيم، تطلب منه أن يعين ابن القارح على دخول الجنة، فيتعلق بركابه، حتى يبلغ رسول الله e، فيسأل ابنته فاطمة عنه فتخبره أن جماعة من الأئمة الطاهرين قد سألوا فيه، فينظر في أعماله، فيجدها قد ختمت بالتوبة، فيشفع له. (ص 256 ـ 261).

والموقف يدل على ما للسيدة فاطمة عليها السلام من دور فاعل لدى طرفين اثنين، الأول: والدها محمد رسول الله e، وهذا يدل على تكريم الرسول والإسلام للمرأة، والطرف الثاني الذي لفاطمة فيه دور فاعل هو اتباعها من الأئمة الطاهرين، وهذا يدل على ما كان للمرأة في الإسلام من دور تاريخي.

ويدل الموقف على تشيع أبي العلاء المعري لشيعة فاطمة دون شيعة علي، رضي الله عنهما، ومن المعروف أن الفاطميين حكموا حلب عهد المعري،وأن المعري كان فاطمي الهوى، وكان يقدر الوزير المغربي، وهو فاطمي، وقد حقد المعري على ابن القارح لما نمي إليه من هجائه الوزير المغربي، وقد أكد ابن القارح في رسالته للمعري أنه بريء مما نمي إليه.

خديجة بنت خويلد

وتظهر" مع فاطمة عليها السلام امرأة أخرى تجري مجراها في الشرف والجلالة" هي خديجة بنت خويلد " ومعها شباب على أفراس من نور" هم "عبد الله والقاسم والطيب والطاهر وإبراهيم بنو محمد e" (ص259) وليس ثمة دور في "رسالة الغفران" لخديجة رضي الله عنها غير ظهورها إلى جوار فاطمة، مما يؤكد تشيع المعري لفاطمة.

جارية تحمل ابن القارح زقفونة

ويأخذ ابن القارح في العبور على السراط، فيجد صعوبة، فتأمر السيدة فاطمة الزهراء إحدى جواريها أن تساعده، فيطلب منها أن تحمله "زقفونة"، وإذ تسأله كيف يكون ذلك يجيبها: "أن يطرح الإنسان يديه على كتفي الآخر، ويمسك الحامل بيديه ويحمله، وبطنه إلى ظهره" ثم تهبه تلك الجارية لتخدمه في الجنة (ص256 ـ 261).

ومثل هذا الحمل من الجارية لابن القارح عادي، وقد استشهد عليه المعري ببيتين من الشعر، وهونوع من الحمل يعرفه المرضى والعجائز والشيوخ، ولعل المعري خبره وهو العجوز الأعمى، فلم يجد غيره وسيلة لعبور السراط.

وهذا الحمل يدل على أن المرأة هي السبيل إلى عبور السراط، أي تحقيق الخلاص، وهو خلاص لا يمكن أن يوصف بغير النقاء والبراءة، ولا يمكن أن يدل على شيء من رغبة جسدية، وما أشبه الجارية وهي تحمل ابن القارح، وقد لزم ظهرها ببطنه، بالأم وهي تحمل ابنها على ظهرها، وإلى اليوم ما تزال المرأة القروية تحمل وليدها على ظهرها وتمضي به إلى الحقل لتعمل فيه.

الخنساء

ويلتقي ابن القارح في أقصى الجنة بالخنساء وهي في المطَّلع تطل على جهنم لترى أخاها صخراً "كالجبل الشامخ والنار تضطرم في رأسه" (ص 308) مصداقاً لقولها فيها:

وإن صخراً لتأتم الهداة به

 

 

كأنه علم في رأسه نار

وفي هذا الموقف ما يدل على قناعة المعري بأنه الشعر نبوءة في الدنيا تتحقق في الآخرة، كما يدل على تحميل الخنساء مسؤولية تلك الصورة التي تحققت في الآخرة، ولعل في ذلك شيئاً من الكراهية للخنساء لفرط بكائها على أخيها صخر، مما يتفق وقناعة المعري بأن الموت غاية كل حي ولا ضرورة لفرط البكاء، وهو ما يؤكده قوله الشهير:

غير مجد في ملتي واعتقادي

 

 

نوح باك ولا ترنم شادي

وهذا الموقف ليس عدائياً من المرأة، إنما هو موقف لا شعوري يكره فرط البكاء والحزن.

مغنيات من العصر العباسي

ويرى ابن القارح "أسٍراب قيان قد حضرن مثل: بصبص ودنانير وعنا (ص 273) ثم يعلم أن "الجرادتين" في أقصى الجنة، فيطلب حضورهما، "فيركب بعض الخدم ناقة من نوق الجنة، ويذهب إليها على بعد مكانهما، فتقبلان على نجيبين أسرع من البرق اللامع، فإذا حصلتا في المجلس حياهما وبش بهما، وقال: كيف خلصتما إلى دار الرحمة بعدما خبطتما في الضلال؟ فتقولان: قُدِرَتْ لنا التوبة ومتنا على دين الأنبياء المرسلين" (ص 273-274) وهؤلاء القيان عشن في العصر العباسي، وفي دخولهن الجنة تقدير من المعري للمرأة المغنية وتأكيد لقبول التوبة.

امرأتان قبيحتان من حلب

ويخلو ابن القارح في الجنة بحوريتين، يرتشف رضابهما، ويتغنى بطيبه، ويذكر أبياتاً في الرضاب لأمرئ القيس حيث يقول:

كأن المدامَ وصوبَ الغمامِ 

 

 

وريحَ الخَزامى ونشرَ القَطَر

يُعَلُّ به بَرْدُ أنيابِها

 

 

إذا غرَّدَ الطائرُ المستحرِ

وهو يشفق على امرئ القيس لأنه لم يذق مثل رضابهما، ثم تخبره إحداهما أنها تدعى حمدونة، وكانت تسكن في باب العراق بحلب، وكان أبوها صاحب رحى، وقد تزوجها رجل يبيع السقط، فطلقها لرائحة كرهها في فمها، وكانت من أقبح نساء حلب، على نحو ما تعترف هي نفسها، وقد عرفت ذلك، فزهدت في الدنيا، وتوفرت على العبادة، وأكلت من مغزلها ومردنها، فصيرها الله إلى ما هي عليه في الجنة. (ص 286 –287).

فالمعري ينتصف للمرأة القبيحة الكريهة الفم الفقيرة، كما ينتصف للمرأة الزاهدة العابدة العاملة التي تأكل من تعب يمينها، فيجعلها تدخل الجنة، فتصبح واحدة من حور العين، وتحظى بزوج مثقف يقدر جمالها مثل ابن القارح. والمعري بذلك يقدر المرأة لتقواها ولعملها، ولا يخفض من شأنها عنده فقرها أو ضعة مكانتها الاجتماعية أو قبحها، بل ذلك كله مما يشفع لها عنده.

أما المرأة الثانية فتدعى "توفيق السوداء" وكانت تخدم في دار العلم ببغداد على زمان أبي منصور محمد بن علي خازن دار العلم، وكانت تخرِج الكتب إلى النُّسَّاخ (ص 287).

والمعري بذلك يمجد أيضاً عمل المرأة ولاسيما في مجال العلم، وهو يقدرها على الرغم من قبحها الذي يدل عليه اسمها.

نساء من عالم الأدب

وتغني إحدى القيان أبياتاً للشاعر جران العود، فتجيد، وإذ يعجب القوم لغنائها تلتفت لتخبرهم أنها " أم عمرو" التي ذكرت في معلقة عمرون بن كلثوم، حيث يقول (ص 278):

تصد عنا الكاس أم عمرو

 

 

وكان الكأس مجراها اليمينا

وما شر الثلاثة أم عمرو

 

 

بصاحبك الذي لا تصحبينا

ويسألها القوم لمن البيان، فتذكر أنها كانت تسقي مالكاً وعقيلاً ندماني جذيمة الأبرش، ولقيهما عمرو بن عدي وهو ابن أخت جذيمة، فتصدت عنه ولم تصب لـه، فقال البيتين، ثم تضيف قائلة: "فلعل عمرو بن كلثوم حسَّن بهما كلامه، واستزادهما في أبياته" (ص278).

والمعري يصدق كلام القينة وينكر أن يكون البيتان لعمرو بن كلثوم على الرغم من ورودهما في معلقته، مما يدل على احتكامه إلى العقل وعدم اطمئنانه إلى المنقول والمتوارث، ومما يدل أيضاً على صدق المرأة عنده.

نساء يذكرن ولا يظهرن

ويطل ابن القارح على الجحيم فيرى عدي بن ربيعة المهلهل، فيشفق عليه لدخوله النار، ويؤكد له أنه كلما أنشد أبياته في ابنته اغرورقت من الحزن عيناه بالدموع، (353) وكان المهلهل قد زوج ابنته لرجل من حي جنب وهو حي وضيع من أحياء بني مذحج، ومن أبياته قوله:

أنكحها فقدها الأراقم في 

 

 

"جنب"، وكان الحباء من أدم

ليسوا بأكفائنا الكرام ولا 

 

 

يغنون من عيلة ولا عدم

وهذا الموقف يؤكد اشفاق المعري على المرأة وإنكار زواجها ممن هو ليس بكفء له.

ويلتقي النابغة الذبياني، فيسأله: (ص 204ـ 205) "كيف حسَّن لك لبك أن تقول للنعمان بن المنذر:

زعم الهمام بأن فاها بارد

 

 

عذب إذا ما ذقته قلت أزدد

زعم الهمام ولم أذقه بأنه

 

 

يشفى ببرد لثاتها العطش الصدي

فيقول النابغة: "..ذلك أن النعمان كان مستهتراً بتلك المرأة، فأمرني أن أذكرها في شعري، والأبيات داخلة في وصف الهمام، فمن تأمل المعنى وجده غير مختل".

والمعري هنا يرى أن بعض الوصف قد لا يكون على الرؤية والتجريب وإنما على التصور والسماع، وهو لا ينكره، بل يستجيده، ولعل هذا الرأي يتفق وعاهة العمى لدى المعري، لعل فيه دفاعاً غير مباشر عن نفسه.

ويشير المعري إلى "أم حصن" التي ذكرها النمر بن تولب في شعره، حيث قال:

ألمَّ بصحبتي وهم هجوع

 

 

خيال طارق من أم حصن

لها ما تشتهي: عسلا مصفى

 

 

إذا شاءت وحوَّارى بسمن

ثم يبدل اسمها مرات كثيرة من أم حصن إلى أم حفص إلى أم جزء إلى أم حرب إلى أم صمت إلى أم شث إلى أم شح وهكذا حتى يستعرض الألفباء كلها حتى الياء، وفي كل مرة يأتي في البيت الثاني بروي جديد حتى يتم الألفباء كلها، مظهراً مقدرة لغوية عجيبة (ص 154 ـ 164).

وهكذا يستثير اسم المرأة لدى المعري ذاكرة لغوية فذة، فكأن المعري يتعامل مع الكون كله من خلال اللغة.

ويلتقي حسان بن ثابت، فيسأله عن قوله:

كأن سبيئة من بيتِ رأس

 

 

يكون مزاجَها عسلّ وماءُ

على أنيابها أو طعمَ غضٍّ

 

 

من التفاح هصَّره اجتناء

"ويحك؟ ما استحييت أن تذكر مثل هذا في مدحتك رسول الله e وسلم"، فيقول: "إنه كان أسجع خلقاً مما تظنون، ولم أقل إلا خيراً لم أذكر أني شربت خمراً، ولا ركبت مما حظر أمراً، وغنما وصفت ريقَ أمرأة، يجوز أن يكون حلاً لي، ويمكن أن أقوله على الظن" (ص 234 ـ 235).

والمعري يبرئ ذلك حسان بن ثابت، ويرى أن ذكر الريق ليس بضائر، وأنه ليس فاحشة كشرب الخمر أو ارتكاب محرم، وهو يبحث عن مسوغ للغزل في الإسلام ويريد أن يؤكد أن الإسلام لا يحرم الشعر ولا يمنعه، وهو يدل أيضاً على فهمه لطبيعة الشعر، فهو إما أن يكون تعبيراً عن واقع وهذا الواقع مما هو حلال ومشروع، وإما أن يكون تعبيراً عن خيال.

ويذكر ابن القارح أبياتاً للنابغة الجعدي، يصف فيها الرضاب، ويعلق عليها المعري، فيقول: "أين طيبُ هذه الموصوفة من طيب مَن تشاهده من الأتراب والعُرُب؟ كلا والله، أين الأهل من الغُرُب؟ إنها لتفضُل على تلك، فضلَ الدُّرَّة المختزنة على الحصاة الملقاة، والخيرات الملتمسة على الأعراض الملتقاة (ص221).

وواضح تفضيل المعري فم المرأة في الجنة على فم المرأة في الدنيا، ويلاحظ إلحاح المعري في رسالة الغفران على الرضاب والفم، وعدم ذكره أي شيء آخر مما يتعلق بالمرأة كالنهد أو الردف أو العطر، ولعل في هذا ما يدل على عفته، وبعده عن الفواحش.

ويؤكد ذلك مشهد يغضب فيه النابغة الجعدي من الأعشى وينكر عليه دخوله الجنة، لأنه أفحش في أبيات يذكر فيها دخوله على امرأة ومداعبته لها، ومنها قوله: (ص230)

فدخلت إذ نام الرقي

 

 

ـب فبت دون ثيابها

فثنيت جيد غريرة

 

 

ولمست بطن حقابها

    إلا أن المعري يجعل صاحبه ابن القارح يمتع نفسه بذكر الغواني والغزل، وهي متعة لغوية برئية، قوامها الكلام والخيال، كما يجعله يمتع نفسه بسماع الغناء، ورشف الرضاب، ولا يسوقه إلى شيء من فحش، ثم يجعله يلتقي بحورية خصها الله به من نساء الجنة.

     ثالثاًـ الحور العين في الجنة:

والحور العين في الجنة على أنواع أيضاً، فمنهن من يخرجن من ثمر في شجر ومنهن من ينقلبن عن طير، ومنهن من هن نسوة ابتداء، وابن القارح يلتقي الجميع.

   حور ينقلبن عن إوز

    وبينما ابن القارح في روضة من رياض الجنة يمر رفٌّ من إوز الجنة، فلا يلبث أن ينزل على تلك الروضة.. فينتفض فيصرن جواري كواعب يرفلن في وشي الجنة، وبأيديهن المزاهر وأنواع ما يلتمس به الملاهي"، ثم يطلب من إحداهن أن تغني بيتاً للنابغة الذبياني فتغنيه على ألحان مختلفة، وهي في كل لحن تجيده، فتثير دهشة ابن القارح. (ص212 ـ 214) ويسألها "فمن أين لك هذا؟" فتجيبه: "وما الذي رأيت من قدرة بآرائك؟ إنك على سيف بحر؟ لا يدرك له عبر" (ص215) ويعرض ابن القارح على نابغة بني جعدة أن يختار واحدة من حور العين اللواتي انقلبن عن الإوز، لتذهب معه إلى منزله، فيعترض على ذلك لبيد بن ربيعة، حتى لا يقال عنهم أزواج الإوز (ص234).

    والمعري هنا متعلق بالصوت والغناء، والإزو يهبط إليه من السماء، كالحلم، وهو عطاء من الله، ويعلق على ذلك فيقول: "فتبارك الله القدوس، نقل هؤلاء المسمعات من زي ربات الأجنحة إلى زي ربات الأكفال المترجحة، ثم ألهمهن بالحكمة حفظ أشعار لم تمرر قبل بمسامعهن، فجئن بها متقنة محمولة على الطرائق ملحنة، مصيبة في لحن الغناء، منزهة عن لحن الهجناء.. فسبحان القادر على كل عزيز، والمميز بفضله كل مزيز" (ص226).

    ويدل هذا الموقف على خيال خصب مبدع، فقد ورد في الشعر العربي تشبيه المرأة بالغزالة وبقر الوحش كما ورد تشبيه النهدين بالرمان والخدين بالتفاح مثلاً، ولكن لم يرد في الشعر العربي تشبيه المرأة بالتفاح أو السفرجل أو الرمان أو الإوز، ولم يسبق أحد إلى القول بخروجها من ثمر أو انقلابها عن طير.

    وقد ورد في الأساطير اليونانية تحول الفتى نرسيس إلى زهرة فقد أدام النظر إلى صورته في صفحة بركة إلى أن سقط في الماء ونبت في موضعه زهرة حملت اسمه، كما ورد فيها تحول زيوس إلى طائر البجع ليزور بعض نساء الأرض وهن نائمات.

    وفي اعتراض لبيد دعابة جميلة، لا تقدح في دين المعري، وهي محض ممازحة بريئة، ولعل المعري لم يرد لصاحبه ابن القارح الزواج من امرأة منقلبة عن إوز ليظل منسجماً مع مذهبه في الكف عن لحم الحيوان، والطير لا يعدو أن يكون ضرباً من الحيوان، وقد روي أنه وصف للمعري في مرضه الدجاج، فأبى، ويؤكد ذلك أنه يخبئ لابن القارح زوجة تخرج له من نبات على نحو ما يرد في المشهد التالي.

   حور يخرجن من ثمر العفز أو من سفرجل

    ويذكر ابن القارح وهو في الجنة أبياتاً للخليل تصلح للغناء، "فينشئ الله القادر بلطف حكمته شجرة من عفز، والعفز الجوز، فتونع لوقتها، ثم تنفض عدداً لا يحصيه إلا الله سبحانه، وتنشق كل واحدة منه عن أربع جوار يرقن الرائين ممن قرب والنائين، يرقصن على الأبيات المنسوبة إلى الخليل" (ص279)

وخروج الجواري من النابت هو دليل براءة ونقاء وطهر، ودليل بعد عن الحيوانية والغرائز الدنيا، وهو ما يتفق وتحريم المعري لحم الحيوان على نفسه.

    ويمر ملك من الملائكة فيسأله ابن القارح عن الحور العين، فيخبره أنهن " على ضربين، ضربٌ خلقه الله في الجنة لم يعرف غيرها، وضرب نقله الدار العاجلة لما عمل الأعمال الصالحة"، ثم يسأله عن الضرب الأول، فيطلب منه أن يتبعه/ "فيتبعه، فيجيء به إلى حدائق لا يعرف كنهها إلا الله، فيقول الملك خذ ثمرة من هذا الثمر فاكسرها فإن هذا الشجر يعرف بشجر الحور، فيأخذ سفرجلة أو رمانة أو تفاحة أو ما شاء الله من الثمار، فيكسرها، فتخرج منها جارية حوراء عيناء تبرّق لحسنها حوريات الجنان، فتقول: من أنت يا عبد الله؟ فيقول: أنا فلان ابن فلان، فتقول: إني أمنى بلقائك قبل أن يخلق الله الدنيا بأربعة آلاف سنة، فعند ذلك يسجد إعظاماً لله القدير... ويخطر في نفسه وهو ساجد، أن تلك الجارية على حسنها ضاوية فيرفع رأسه من السجود وقد صار من ورائها ردف يضاهي كثبان عالج وأنقاء الدهناء.." فيسأل الله تعالى أن تقصر قليلاً، فيقال له: "أنت مخير في تكوين هذه الجارية كما تشاء، فيقتصر من ذلك على الإرادة" (ص 287 ـ 289).

    وهذا المشهد يدل على ذكاء المعري وخياله الخصب في تصوير المرأة تخرج من ثمرة ويتفق ذلك وموقفه من الحيوان المتمثل في امتناعه عن تناوله واكتفائه بالنبات، كما يدل على قوله بحرية الإنسان الجزئية داخل القدر الإلهي الأكبر والأشمل، فابن القارح محكوم بالزواج من هذه الحورية التي تنتظره قبل أن يخلق الله الدنيا بأربعة آلاف سنة، ولكنه حر في تكوينها كما يشاء، كما يحمل هذا المشهد أول مرة في الرسالة الإدراك الحسي لجسد المرأة ولكن من غير إفحاش.

   حية يمكن أن تنقلب إلى واحدة من حور الجنة

    ويؤكد تعلق المعري بالنبات وعزوفه عن الحيوان المشهد التالي:

    ويدخل روضة مونقة فيرى حية تخبره أنها عاشت في دار الحسن البصري ثم انتقلت إلى دار أبي عمرو بن العلاء ثم إلى دار حمزة بن حبيب في الكوفة وقد سمعت عنهم القراءات وهي تحفظها وترويها، ثم تعرض على ابن القارح أن تخلع إهابها لتصبح أحسن غواني الجنة، وتغريه برضابها وتدعوه إلى اللذة وتعده بالود والوفاء، ولكنه يذعر منها ويذهب مهرولاً في الجنة (376 ـ 372).

    ويلاحظ هنا دخول الأفعى الجنة، وما هي بالأفعى الوحيدة التي تدخل الجنة إذ ثمة أفعى أخرى وهي الأفعى التي ذكرها النابغة في شعره والتي أمنها أحد الرعاة على حياتها فكانت تعطيه كل يوم ليرة ذهبية، ثم غدر بها ولده فقطع ذيلها ولدغته فمات، ولما دعاها الراعي إلى ما كانا عليه من عهد اعتذرت.

    وهكذا تدخل الأفعى عند المعري الجنة، تدخلها لوفائها تارة ولعلمها تارة أخرى، ولا يشير المعري إلى ما ورد في الإصحاح الثالث من سفر التكوين من إغواء الأفعى لحواء كي تأكل من ثمر الشجرة المحرمة ثم ما كان من إغواء حواء لآدم، بل إنه يناقض ما تذهب إليه التوراة من تحميل الأفعى وزر خروج آدم من الجنة، وما تذكره أيضاً من عداء الإنسان لها وبغض المرأة لها إذ يجعلها مرشحة للانقلاب إلى واحدة من الحور.

   العودة إلى المرأة الخارجة من سفرجل

    وما إن يغادر ابن القارح الأفعى حتى يلتقي "الجارية التي خرجت من تلك الثمرة، فتقول: إني لأنتظرك منذ حين" ثم تعتب عليه لبعده عنها، فيتعذر إليها ويدعوها إلى كثبان الجنة وهي من عنبر ، فتسأله إن كان بنفسه أن يفعل ما فعله امرؤ القيس مع صاحباته في دارة جلجل، فيعجب كيف عرفت ما يدور في خلده، وسرعان ما ينشئ الله حوراً عيناً يسبحن في نهر من أنهار الجنة، فيعقر لهن ناقته، فيأكل ويأكلن (ص 372 ـ 373).

وهكذا يطمئن ابن القارح إلى الجارية التي خرجت من ثمرة، وبها يأنس، ما يتفق ومذهب المعري.

    ثم إنه "يذكر ما يكون من فتور في الجسد من المدام، من غير أن يُنْزَفَ له لُبٍّ، فإذا هو يخال في العظام الناعمة دبيب نمل، ويتكئ على مفرش من السندس، ويأمر الحور العين أن يحملن ذلك المفرش فيضعنه على سرير من سرر أهل الجنة، ثم يحمل على تلك الحال إلى محله المشيد بدار الخلود" (ص 377 ـ 378).

     رابعاً ـ خاتمة:

    وهكذا تنتهي رحلة ابن القارح في الجنة وقد بدأت بلقاء السيدة فاطمة وقد شفعت له لدى والدها محمد ( وسلم فدخل الجنة، وانتهت بلقاء الزوجة المقدرة له قبل أن يخلق الله الدنيا بأربعة آلف سنة، وهي جارية تخرج له من ثمر.

    وفي هذه الرحلة يلتقي نساء كثيرات، بعضهن من نساء الدنيا وبعضهن ممن ذكرن في الشعر وأخريات خلقهن الله ابتداء في الجنة وبعض هؤلاء يخرجن من ثمر وبعضهن ينقلبن عن طير، وكلهن حسناوات جميلات، وأكثر ما يذكر من متعهن ارتشاف الرضاب واستماع الغناء، وهما متعتان بريئتان، فيهما قيم فنية عالية، ولعل هذا الإكثار من ظهور النساء والحور العين هو تأكيد غفران الله تعالى لابن القارح وقبوله توبته، وإظهار لما في الجنة من متع هي أرقى من متع الدنيا وأجمل، يؤكد ذلك تفضيل المعري دائماً رضاب الحور العين على رضاب النساء في الدنيا مهما بالغ الشعراء في تأكيد روعته، ولعل في ذلك الظهور الكثير للنساء في الجنة تعويضاً عن حرمان المعري من المرأة وإشباعاً لرغبته في لقائهن، وهو إشباع رفيع عماده اللغة والخيل، ولا دنس فيه.

    وابن القارح يدخل الجنة بشفاعة امرأة ثم يسير على السراط تحمله امرأة ثم يلتقي امرأة كانت تنتظره قبل أن يخلق الله الدنيا بأربعة آلاف سنة، وهذا يعني أن المرأة هي الخلاص وهي ضرورة وقدر، والجميل أنه ليس فيها شيء من شر، بل هي الخير كل الخير، فهي في كل الأحوال تحفظ الشعر وترويه وتجيد الغناء وهي عذبة المقبل ذكية رائحة الفم وهي في كل الأحوال عيناء جميلة، ولعل هذه هي الصورة التي كان يمني المعري نفسه بها، ولم يجدها في الدنيا، وأنى له أن يجدها، وهو الذي كان يريدها خارجة من ثمرة، لم تلدها أم ولم ينجبها أب.

    وهذا اللقاء بالنسوة يتدرج في خط صاعد من لقاء نساء الدنيا إلى لقاء الحور العين الخارجات من ثمر أو المنقلبات عن إوز، ويعترضه للتشويق لقاء أفعى عالمة تعد ابن القارح باللذة والوفاء، ولكنه يفر منها ليلتقي صاحبته الموعودة به والخارجة من سفرجل، وفي هذا ما يدل على بناء سردي فيه تشويق وإدراك لعناصر القص والتنوع في المواقف والشخصيات وما قد يعترض ذلك من مصاعب ثم ما يكون من حلول، وللبعد عن المبالغة لا نصف المعري بالروائي والقاص، لكن يمكن وصفه بالسارد المتقن لفنه والمدرك لعناصره.

    يؤكد ذلك اتخاذ المعري من ابن القارح بطلاً يدخل الجنة ويلتقي الأدباء والشعراء واللغويين فيها وهو ما ساعده على التعامل مع موضوعه بحرية، كما وفر له إمكان تحميل ابن القارح الأفكار التي يرغب، ووضعه في المواقف التي يريد وتعبيره عن الأفكار التي يشاء من غير أن يتحمل المعري تبعة ذلك كله، ومن غير أن يقع في التوضيح والمباشرة.

وابن القارح لا يدخل النار، ولا يمر بها ولا يكتوي بها ثم ليخرج منها، بل يدخل الجنة فوراً بعد شفاعة السيدة فاطمة لـه لدى أبيها، وفي هذا تأكيد لقبول توبة ابن القارح وغفران الله تعالى له، لعل الرسالة سميت رسالة الغفران تأكيداً لذلك.

    وإذا كان ابن القارح لا يدخل النار فإنه يطل عليها من مكان عال ويرى بعض الشعراء ويكلمهم عن بعد، وهم غير كثير، إذ لا يزيد عددهم على ستة عشر شاعراً، وليس فيهم شاعرة، وابن القارح يكلمهم من بعيد، ولا يطيل في الحديث أو الوقوف، وسرعان ما يرجع إلى الجنة، وفي هذا ما يدل على أن المعري كان شفوقاً بابن القارح وبالشعراء، وهو لا يريد تصوير مشاهدة العذاب أو الإيغال فيها حتى لا يؤلم القارئ، ولعله هو نفسه لا يحب الألم والتعذيب، إنما يريد أن يمتع نفسه والقارئ ببعض نعيم الجنة تأكيداً لمعنى الغفران.

    والمعري يعلي من شأن المرأة، ويقدرها، فهي الشفيع وهي الوسيلة إلى الجنة وهي الحاملة على السراط وهي المطربة بصوتها وغنائها وهي المثقفة الراوية للأشعار، وتوبتها مقبولة وبها تدخل الجنة حتى لو كانت في الدنيا من القيان المغنيات أمثال دنانير وعنان والجرادتين، ويزداد تقدير المعري للمرأة إذا كانت في الدنيا مظلومة، يظلمها أبوها وزوجها بسبب قبحها وريح فمها، فإذا به ينصفها، فالسوداء في الدنيا بيضاء في الجنة كالكافور، وذات الفم الكريه الرائحة في الدنيا هي من أكثر الحور طيب رائحة فم، وإنه ليبكي لدى سماعه المهلهل يذكر زواج ابنته من رجل ليس لها بكفء، وإذا كان في النار بعض النسوة فهن من نساء الملوك، وابن القارح لا يراهن، ولا يرى ما يلقين من عذاب، كأن المعري لا يريد أن يصف عذاب المرأة، أو كأنه لا يتصور العذاب لاحقاً بالمرأة، ولكن ابن أبي مقبل هو الذي يذكر بإيجاز شديد ما شاهدوه من عذاب بعض النسوة في الحشر، حيث يقول: "والنسوة ذوات التيجان يُصَرْنَ بألسنة من الوقود، فتأخذ في فروعهن وأجسادهن" (ص247).

    وأكثر المتع التي يصورها المعري في الجنة هي الطرب والغناء، ثم ارتشاف الرضاب ووصف الريق شعراً، حتى كأنه يرتوي لذكر الرضاب في الشعر، فيكثر من الاسشتهاد به وضرب الأمثلة عليه، ولكنه في الأحوال كلها يفضل رضاب الحور العين في الجنة، وهو يقبل من النابغة الذبياني وصفه زوجة النعمان لأن ذلك كان بطلب من زوجها، ولأن النابغة كان متحرزاً في الوصف، كما يقبل من حسان ذكره الغزل والنسيب في مدح رسول الله لأن الرسول نفسه لم يعترض عليه، ويعلل ذلك الغزل بأحد أمرين، الخيال أو الحلال، وهو لا يذكر عدا ذلك شيئاً مما يتعلق بالمرأة من متع ولذائذ، مؤكداً عفته ونقاءه، ويشهد على ذلك غضب النابغة الجعدي على الأعشى، لما وجد في شعره من إفحاش في الغزل.

    ويثير ذكر المرأة لدى المعري ذاكرة لغوية عجيبة، إذ يكفي أن يجيء ذكر أم حصن في قافية أحد الأبيات، حتى يمضي ليستعرض حروف الألفباء كلها ويعرض الاحتمالات التي يمكن أن يجري عليها الروي من الهمزة إلى الياء، وهو في المواقف كلها يكثر من ذكر قضايا اللغة والشعر ويكثر من شواهد القرآن والشعر، مما يدل على خبرة أدبية لغوية هي عند المعري أكبر من خبرة الحياة.

    ولذلك ليس غريباً أن يجد المرء المعري في أحد المواقف يفضل الشعر على الولد، وبالأحرى القصيدة على البنت، لأن هواه مع الأدب، ففي أحد المواقف يلتقي ابن القارح الشماخ بن ضرار، ويستنشده قصيدتين من شعره، فيعتذر إليه إذ نسيهما، فيقول له ابن القارح "لفرط حبه الأدب وإيثاره تشييد الفضل: "أما علمت أن كلمتيك أنفع لك من ابنتيك؟ ذكرت بهما في المواطن، وشهرت عند راكب السفر والقاطن، وإن القصيدة من قصائد النابغة لأنفع له من ابنته عقرب ولعل تلك شانته وما زانته، وأصابها في الجاهلية سباء، وما وفر لها الحباء" (ص 238).

    والمعري في هذا الموقف لا يناقض مواقفه السابقة من المرأة، بل يتكامل معها، فهذا الموقف الوحيد من المرأة في رسالة الغفران، هو تعبير عن وعيه وفلسفته وموقفه الذي اتخذه لنفسه في الحياة، وأسقطه هنا على ابن القارح، والمواقف السابقة في رسالة الغفران هي تعبير عن حلم ورغبة داخلية مقموعة أو مكبوتة أو مقهورة، أشبعها المعري نفسه من خلال ابن القارح، الذي اتخذ منه بطل الغفران.

    وبذلك تتكامل المواقف، ويؤكد بعضها بعضه الآخر، فما كان من لقاء بالمرأة في الجنة وحديث معها أو عنها هو إشباع لرغبة مكبوتة، هو الأكثر، وما كان من كلام على تفضيل الشعر عليها هو تعبير عن موقف في الحياة الدنيا لم يحد عنه المعري، وهل المطلوب منه أن يحرم نفسه من المرأة كما حرم نفسه منها في الدنيا؟ أليس من الطبيعي أن يطلق لخياله العنان في الجنان؟

    لقد عاش المعري عف الإزار، مكتفياً من الطعام بالعدس، منصرفاً إلى العلم والتعليم، لا يتقاضى من أجر، كما عاش رهين محابسه الثلاثة، العمى والبيت والجسد، إذ لم يغادر مسكنه في النصف الثاني من حياته، كما كان يحس بروح حبيسة الجسد يريد لها الانطلاق في ملكوت المعرفة والرحمة الإلهية، ولم يكن عنده جارية ولا زوجة ولا ولد، ولم يعرف من المرأة سوى لمسات أمه، كما عاش المعري في قرية صغيرة، مجتمعها مجتمع زراعي متخلف، معظم الرجال فيها أميون، والنساء لا عمل لهن سوى مساعدة الرجل في الزراعة والنول والغزل، وفي هذا المجتمع وفي ذاك الموقف من المجتمع والحياة كانت رحلة أبي العلاء المعري إلى الجنان، وفي مثل ذلك المناخ كان موقفه من المرأة في رسالة الغفران.

    والمرجو بعد ذلك كله ألا ينظر إلى موقف المعري من المرأة من منظور القرن الحادي والعشرين ومشكلات المرأة المعاصرة وقضايا تحررها وعملها، وألا ينظر إلى موقفه من منظور الإنسان المعاصر الطامع في المال والراكض وراء التجارة والغارق في أشكال لا حصر لها من متع التلفاز والمحطات الفضائية وعروض الأزياء وأفلام الجنس والإباحة وصخب المدن والعواصم الكبيرة.

والمعري على كل حال ما يفتأ يذكر الله في كل حالة وعند كل موقف ومع كل خطوة، وهو ويمده وينزهه ويحمده ويثني عليه، وما يفتأ يذكر العفو مع التوبة، مما يؤكد قوة إيمانه، وقوة تمسكه بالتوبة، ويقينه بالغفران.

 

07‏/09‏/2008

السخرية عند المعري


إطلالــــة على السخريــة عند أبي العلاء المعري ـــ فوزي معروف (*)

السخرية سلاح الروح العظيمة لقهر المتاعب، ولعل المثل المعروف الأقدم هو "سقراط الذي سخر من قاتله وهو يتجرع كأس السمِّ قائلاً يرد على تلاميذه الذين كانوا يرددون: "من المؤسف أيها المعلم أن تموت دون ذنبٍ ارتكبته" "وهل تظنون أن الموت كان يمكن أن يكون أسهل لو كنتُ مذنباً" ضحك تلاميذه بين دموعهم وثار حقد أعدائه أكثر.

أحد رجال الثورة الفرنسية قال قبيل إطلاق الرصاص عليه: "رصاصة واحدة تكفيني دع الباقي لبريء آخر" أضحك قولهُ الحاضرين بينما أثار حنق خصومه.

السخرية العميقة قدرُ العظماء من بني البشر من سقراط أول الساخرين المعروفين إلى الجاحظ والمعري إلى برناردشو ومارك توين...

ويتميز الساخر العظيم بأنه يضع يده على القاع الروحي لمن يعيشون حوله وهذا يكاد يكون واحداً عند معظم شعوب الأرض.. ولعل هذا الأمر يكمن وراء تشابه الأدب الساخر عند كثير من الشعوب وبخاصة تلك المتقاربة جغرافياً التي تتقاطع في نصوصها الساخرة هموم مشتركة ومشاكل متشابهة.

والأدب الساخر أدب عالمي لا يخلو منه تراث أمة حيّة.. فالإنسان أينما كان يعالج نواقصه عندما يسخر منها... وكثيرون من الناس يؤمن أن السخرية إحدى الطرق لتغيير الواقع، أو هي أحد أشكال المقاومة، والأدب الساخر لا يقصد الإضحاك فقد بل له أهداف وغايات من أهمها: الحفاظ على قيم المجتمع العليا، تكريس السلوك القويم، تعديل مجرى اتجاه متطرف.. لأن السخرية تهاجم دائماً التصلب في الفكر والطبع والسلوك ساعية لجعل طباع المجتمع أكثر مرونة كما أن السخرية تترجم حالة روحية حين تنحرف القيم ويسود الزيف.

وكثيرون يرون أن السخرية سلاح يحمي الروح من ضعفها كما يرون فيها تعبيراً عن مأساة هي أكبر من أن يتحملها الضمير الإنساني كما يحدث الآن في الأراضي العربية والعراق المحتلة إذ معظم التعبير عن الواقع العربي الآن يميل إلى السخرية.

تتوهج السخرية حين يمر الإنسان بظروف تشعل الروح وتمزق الأعصاب.. وهذا ما كان مع (غوغول) حين وصل الواقع الروسي إلى حدٍ من السوء لا يُطاق إذ ذاك ظهرت سمة بارزة في أدبه هي "الضحك من بين الدموع" كما قال ناقده "بيلنسكي" آمن بالإضحاك الهادف وتولت السخرية عنده نقل الرسالة المرة في نقد الواقع نقداً إيجابياً.

حين تصبح الآلام هائلة يبتسم المبدعون الكبار بدل البكاء لكنها ابتسامة أفظع من الدموع. تنعكس في كلمات ومواقف ساخرة كما عند ابن الرومي والمعري والجاحظ في تراثنا. والمازني ومحمد الماغوط في واقعنا المعاصر.

الأدب الساخر لون صعب الأداء يتطلب موهبة خاصة وذكاءً حاداً وبديهةً حاضرة([1]). وهو وليد المرحلة العمرية الأكثر نضجاً التي تتحرر من العواطف العنيفة...

السخرية الحقة لا تكون إلا مع وجود التوازن الشاق الجميل والنظرة المستوعبة للطبيعة والإنسان ومن أجل ذلك لا تقع السخرية الناجحة النافذة في مرحلة مبكرة من العمر الإبداعي.. إذ لا بد كي تنجح السخرية من يقظة في الروح وهذه قلَّما تتوفر مع حماسة الشباب" ولعل هذا هو السبب في خلو آثار شباب المعري من السخرية العميقة ووجودها بكثافة وعمق في نتاج المرحلة المتأخرة من عمره ـ اللزوميات ـ رسالة الغفران.

الكتابة الساخرة الناجحة، فنٌ صعب المراس، يتوفر لقلة قليلة من بداياتهم الكتابية إذ لا بد من النضج الفكري والاجتماعي حتى يصل الكاتب إلى درجة معينة تؤهله لأن يصير كاتباً ساخراً.. ولعل أعمق الكتابات الساخرة وأبقاها على الزمن هي تلك التي توج بها بعضُ المبدعين حياتَهم بحيث يمكن القول: إن السخرية الناجحة فنُّ المرحلة المتأخرة من العمر نذكر أمثلة منها أفلاطون يقول وقد قارب الشيخوخة "علمتني الحياة أن الجد والصراحة لا مكان لهما في العلاقات الإنسانية".

بعد استقراء نماذج الكتابة الساخرة عند بعض أعلامها يلاحظ المرء أنها تتطلب درجة عالية من المهارة والرهافة...

المهارة: التي تبقي على الشعرة الدقيقة الفاصلة بين المسموح به والمنهي عن التصريح به. باللقطة المحايدة في الظاهر، الوصف الذي يُنطق الحال على نحو غير مباشر والتعليق البريء على مستوى السطح بما يضفي حياداً مراوغاً في وصف المشاهد أو صوغ الحوارات جنباً إلى جنب.

الرهافة: التي تنفر من الإعلان المباشر عن المواقف أو الآراء، فتؤثر التلميح الذكي على التصريح الفج متجنبة العبارات النابية والجمل العاطفية رافضة الاستسلام لغواية أي حال من حالات الهشاشة الوجدانية في البوح، لذلك تبدو اللقطات الإنسانية عند هؤلاء وأمثالهم رهيفة تنطق بأكثر مما تؤديه الكلمات.

ويُلاحظ هنا إن كتابة المعري ـ المتأخرة بخاصة ـ لا تخلو من الوجه الآخر للجد المتجهم... وهو السخرية التي تعطي مذاقاً لاذعاً لكتابته. السخرية سلاح ناوش به مفاسد الواقع حيث ـ ما كان يملك ـ وهو على الحال التي نعرف ـ سوى السخرية لمواجهة واقع أفسده القمع والخوف والسرقة.

إذاً واجه المعري الحياة ومحنتها الدائمة بالسخرية مرة والنفاذ بالوعي والحكمة إلى صميمها مرة أخرى واصلاً إلى ما ظنه اليقين عندما يعلن إيمانه بالعقل وثقته المطلقة فيه دليلاً وهادياً وإماماً.

كذب الظن لا إمام سوى العقل

 

مشيراً في صبحه والمساء

هذا الذي تقدم لا يعني أن المعري يُعلن أنه يقدم أو قدم نصاً في السخرية ولكننا نستخلص أقواله التي تشير إلى روحه الساخرة في ثنايا ما كتب لتكون فقط عيّنة من أدبه الساخر.. المعري يشبه الجاحظ في سخرياته المقنعة بالجد المتعالية عن الكثيرين من عامة الناس.

هذا المبدع الذي حاول أن يفرَّ من سجونه إلى الجحيم والجنة ليتحدث هناك بحرية ويعطي رأيه بكل ما في الحياة حوله وكان بذلك باراً بقسمه الشهير:

إني وإن كنتُ الأخيرَ زمانه

 

لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل

إن الكثير من لقطات المعري الساخرة تستند إلى آلية المفارقة اللغوية التي تجعل العلاقة بين الدلالة المباشرة والدلالة المنزاحة علاقة قائمة على التقابل الدلالي لأن بنية السخرية تتحقق بوجود دال ومدلولين يكون الأول مباشراً ويكون الثاني ضمنياً... يكون المدلول الأول حرفياً وظاهراً بينما يكون المدلول الثاني قصدياً وضمنياً ولا بد والحال كذلك لكي تحقق السخرية الهدف منها على مستوى الكتابة.. لا بد من تفاعل العنصرين: الكاتب والمتلقي لأن السخرية تحضر في النص من خلال مؤشرات وقرائن فقط يأتي بعد ذلك دور المتلقي في تشييدها لتصبح محققة...

وعند المعري كما عند غيره من كبار الساخرين نجد أن السخرية العميقة هي التي تتحقق بواسطة عدد قليل من المؤشرات إذ تستطيع بهذه المؤشرات القليلة توليد الأثر الساخر الذي يبتعد عن الابتذال.

المقياس الحقيقي للرجل الكبير.. ابتسامته.. روحه المرحة.. قدرته على السخرية من المتاعب.. والمعري واحد من هؤلاء مع أستاذه الجاحظ سيد الأدب الساخر في تراثنا المتوفى عام 255هـ وبخاصة في المرحلة المتأخرة من حياته في كتاب البخلاء، ورسالة التربيع والتدوير..

هكذا كان المعري الذي عاش بين عامي 363 ـ 449 هـ/ 973 ـ 1058م/ الشاعر الفيلسوف المتجهم النظرة إلى الحياة والناس.. كان في آثاره التي كتبها بعد مرحلة الشباب من كبار الساخرين في التراث الإنساني تميز بأسلوبه الساخر ذي الدعابة الدكناء التي لم يخلُ منها حتى اسمه الذي قال فيه:

دُعيت أبا العلاء وذاك مينٌ

 

ولكن الصحيح أبو النزول

 

***

 

وأحمد سماني كبيري وقلما

 

فعلتُ سوى ما أستحق به الذمّا

السخرية عند المعري موقف من العالم، يهجو نقائصه يركز الضوء على أبرز مفارقاته.. موقف يُدمي الروح في اللحظة ذاتها التي يضحك فيها الكائن البشري على ضعفه وتخاذله وخساسته وابتذاله.. قبل أن يضحك بسببها على الآخرين وفي مأثورنا العربي (شر البلية ما يضحك) البلية في كل زمان ومكان من حولنا التي قد نواجهها بأسلحة متعددة ومنها السخرية التي هي أعرق أسلحة البشر وألطفها.

وحين تأتي السخرية من أمثال المعري يسمو الإعجاب إلى درجة عالية، إذ ليس هنا ما هو أشد من سجون أبي العلاء الثلاثة التي عبر عنها بقوله:

أراني في الثلاثة من سجوني

 

فلا تسأل عن النبأ الخبيث

لفقدي ناظري ولزوم بيتي

 

وكون النفس في الجسم الخبيث

لأنه كان من الممكن لهذه السجون أن تؤدي ـ كما كان متوقعاً ـ إلى مزاج سوداوي أو غضب عارم على البشر أو مرارة تفحّ بسمومها في وجه الآخرين..

بالعكس إن هذه السجون طهرته من أوضار الحياة وجعلته أبعد ما يكون عن هوس الدنيا وفتنتها، كما جعلته أبعد عن أشراكها.

هذه السجون قادته مع الميل القابع فيه إلى الفلسفة، قادته إلى الحقيقة الإنسانية المتمثلة في التجرد (العزلة) والمشاركة فقد أصبح اتساع عقله الرحب المتفتح ووجدانه الخصب الممتلئ لكل ما يشمل الآخرين صفةً من أبرز صفات المعري وتوجهاً أساسياً يفيض عنه:

فأي الناس أجعله صديقاً

 

وأي الأرض أسلكه ارتيادا

كأني في لسان الدهر لفظٌ

 

تضمن منه أغراضاً بعادا

يكررني ليفهمني رجالٌ

 

كما كررتَ معنىً مستعادا

ولو أني حُبيتُ الخلد فرداً

 

لما أحببتُ بالخلد انفرادا

فلا هطلت عليَّ ولا بأرضي

 

سحائب ليس تنتظم البلادا

ولي نفسٌ تحلُّ بي الروابي

 

وتأبى أن تحل بي الوهادا

السخرية من المتبجحين:

الواسطة التي ترفع غير المستحقين إلى أماكن لا يستحقونها، والتي قضت على أس الأساس لكل تقدم حقيقي وهو "الرجل المناسب في المكان المناسب"... يسخر المعري منها بطريقته في رسالة الغفران حين يقول على لسان "أوس بن حجر".. ولقد دخل الجنة من هو شرٌّ منّي ولكن المغفرة أرزاق، كأنها النشب في الدار العاجلة...".

كما يسخر المعري من الجاهلين الذين يعيشون نعمة الجهل مبتعدين بأنفسهم عن عذاب الفكر واستخدام العقل حين يقول على لسان "طرفة بن العبد" وددتُ أني لم أنطق مصراعاً ودخلتُ الجنة مع الهمج والطغام"([2]). وسخر كذلك من أدعياء الشعر والضعفة الذين قالوا ما لا قيمة له ومثل لهم بالرجّاز ولعلهم الذين اختاروا بحر الرجز لقصائدهم ـ مُفْرِداً لهم حديثاً خاصاً بل وجنّة خاصة جمع فيها الرجّاز واختار لهم فيها مكاناً متواضعاً ومن هؤلاء ذكر: الأغلب العجلي ـ العجاج ـ رؤبة ـ حميد الأرقط.. ويتصور المعري في رسالته أن أحد هؤلاء يعترض على رأيه فيهم فيكون رده العنيف: "لو سُبك رجزك ورجزُ أبيك لم تخرج منه قصيدة مستحسنة"

ولا ينجو المدّعون المتبجحون الذين يُعطون أنفسهم ما لا يستحقونها ويضعونها في غير أماكنها من سخريته ومثّل لهؤلاء بأبي القاسم الذي ذكره المعري في بيتين من الشعر فجعله نموذجاً لكثيرين من بني البشر في كل العصور يقول:

هذا أبو القاسم أعجوبة

 

لكل من يدري ولا يدري

لا ينظم الشعر ولا يحفظ الـ

 

ـقرآن وهو الشاعر المُقري

ومعظم الناس عند المعري غير عادلين أو منصفين لا يعطون صاحب الحق حقه، أو يبالغون في الثناء على من لا يستحق.. لقد ضاق بأمثال هؤلاء واشتاق إلى بشر يُعطون الحق لأصحابه:

من لي أن لا أقيم في بلدٍ

 

أذكر فيه بغير ما يجب

يُظن بي اليُسر والديانة والعلمُ

 

وبيني وبينها حجب

أقررت بجهلي وادّعى فهمي

 

قوم فأمري وأمرهم عجب

ولعل الناس في زمن المعري مثلهم في زمننا هذا تشغلهم المظاهر ودائماً لا يعبّر مظهرهم عن حقيقتهم.. لذلك سخر من ناس زمنه وفضل عليهم الحجر:

يُحسن مرأى لبني آدم

 

وكلهم في الذوق لا يعذب

ما فيهم بَرُّ ولا ناسكٌ

 

إلا إلى نفعٍ لـه يجذب

أفضلُ من أفضلهم صخرةٌ

 

لا تظلم الناس ولا تكذب([3])

ولا يغيب عن ذاكرة المتلقي الحادثة التي سخر منها المعري من الجنس البشري الذي لا يفارقه الطمع حتى وهو في الجنة، حين يقف ابن القارح أمام سفرجلة فتتحول من فاكهة إلى جارية حوراء ولكنها نحيلة ضاوية فيسجد صاحبها شكراً لله.. ويخطر بباله وهو ساجد أن جاريته ذات جسم ضاوٍ... وما إن رفع رأسه من سجوده حتى صار ردفاها يُضاهي كلٌّ منهما كثبان عالج وأنقاء الدهناء (مكانان ضخمان في الجزيرة العربية).. فيقع ساجداً مرة ثانية تمجيداً لقدرة الله.. وهو يسمع أصداء أصوات تخبره تحويلها على الإرادة.

معرفة المعري بإنسان عصره وصلت به إلى حد فقدان الثقة الذي عبر عنه بقوله:

عصاً في يد الأعمى يروم بها الهُدى

 

أبرُّ لـه من كلِّ خدنٍ وصاحبِ

ـ السخرية من بعض رواة الشعر:

يعقد أبو العلاء في رسالة الغفران مجلساً طريفاً يسخر فيه من طريقة بعض الرواة في الرواية لنصوص الشعر طارحاً في الوقت ذاته الطريقة التي يراها مناسبة... حين يذكر بطله (ابن القارح) بيتين من الشعر للبكري.. يهتف هاتف قائلاً: "أتشعر أيها العبد المغفور له؟ لمن هذا الشعر؟ فيقول الشيخ: نعم حدثنا أهل ثقتنا عن أهل ثقتهم يتوارثون ذلك كابراً عن كابر حتى يصلوه بأبي عمرو بن العلاء فيرويه لهم عن أشياخ العرب.. عن وعن أنّ هذا الشعر لميمون بن قيس([4])

ثم يعرض المعري موكباً من الشعراء يسألهم عما نُسب إليهم من شعر، فينكرون ويتهمون رواته.. يلتفت ابن القارح إلى أعشى قيس فيقول له: يا أبا بصير أنشدنا قولك:

أمن قتلة بالأنقا

 

ء دار غير محلوله

فيقول أعشى قيس ما هذا مما صدر مني وإنك منذ اليوم لمولَعٌ بالمنحولات!!

وجاء بأبينا (آدم) يسأله عما نُسب إليه من شعر قائلاً: يا أبانا قد روى لنا عنك شعرٌ منه قولك:

نحن بنو الأرض وسكانها

 

منها خلقنا وإليها نعود

فيقول آدم: إن هذا لقول حق، وما نطقه إلا بعض الحكماء؛ ولكني لم أسمع به حتى الساعة. فيقول: فلعلك يا أبانا قلته ثم نسيت، فقد علمتُ أن النسيان متسرع إليك وحسبك شهيداً على ذلك الآية: )ولقد عَهدْنا إلى آدم من قبلُ فَنَسِيَ ولم نجد له عزما(([5]) فيقول آدم: أبيتم إلا عقوقاً وأذية إنما كنت أتكلم بالعربية وأنا في الجنة، فلما هبطت إلى الأرض، نُقل لساني إلى السريانية فلم أنطق بغيرها إلى أن هلكت، فلما ردني الله إلى الجنة عادت عليّ العربية فأي حين نظمت هذا الشعر؟ في العاجلة أم الآجلة؟ والذي قال ذلك يجب أن يكون قاله وهو في الدار (الماكرة)... ثم يسأل ابن القارح آدم (عليه السلام) عن شعر نُسب إليه لما قتلَ قابيلُ هابيلاً وهو:

تغيرت البلاد ومن عليها

 

فوجهُ الأرض مغبرٌ قبيحُ

فيقول آدم: "... إنكم في الضلالة متهوّكون آليت ما نطقتُ بهذا النظيم ولا نُطق في عصري وإنما نظمهُ بعض (الفارغين) فلا حول ولا قوة إلا بالله!! كذبتم على خالقكم ربكم، ثم على آدم أبيكم، ثم على حواء أمكم، وكذب بعضكم على بعض ومآلكم في ذلك إلى الأرض"([6]).

ـ السخرية من الكلام دون فعل:

ما قال المعري شيئاً لم يطبقه في سلوكه فقد كان قدوة نادرة في المطابقة بين القول والعمل إذا ما نهى عن شيء وفعله.. ولعله من هذا الإيمان في المطابقة بين القول والعمل سخر كثيراً من هؤلاء الذين لا يعملون بل يعتمدون على الدعاء، هؤلاء الذين يكثرون القول دون القيام بأي فعل ولعل هذا ما قصد إليه في (الصاهل والشاحج) حين هدد البعيرُ البغلَ بالدعاء عليه فكان ردُّ البغل: "أما تخويفك إياي بدعائك، فإن الوحش الراتعة تبتهل على سيد الغابة مذ كانت الخليقة، وما لقي من دعائها إلا خيراً وكذلك صغار الطير يدعون على الباز والأجدل (الصقر) وما يزدادان بذلك إلا رغبة في صيدهن، والظباء والسُماسم (صغار الثعالب) يرغبن إلى ربهم في هلاك الذئب والكلب الصائد فما سُمع منهن دعاء"([7]).

لو كان المعري بيننا اليوم لما احتاج أن يقول غير هذا الذي قاله أمام العجز العربي الذي يكتفي فقط بالدعاء على الأشرار والسفاحين بالموت.

يسخر المعري من هذا الإجماع على الذل والهزيمة وتلقي الإهانات بصدر رحب فيقول:

على الذم بتنا مجمعين وحالنا

 

من الرعب حالُ المجمعين على الشكر

ونتساءل هل قرأ المعري المستقبل ـ الذي نحن فيه ـ حيث وصلنا إلى العالم الجديد الذي يتساوى فيه الإرهابي مع المدافع عن حقوقه (المقاوم) يتساوى فيه الشهيد مع المقتول. يتساوى فيه الجلاد والضحية حين ذكر الحادثة التالية:

".. وبعد أن صار ملك الحيوانات من أهل الجنة، يفترس ما شاء الله مما حوله، فلا تتأذى الفريسة التي تجد من اللذة وهي تؤكل كاللذة التي يجدها ملك الحيوان وهو يأكل!!

ـ يسخر من الجهل والتقليد:

لقد ساد الجهل بين الناس لدرجة صاروا معها يقبلون ما ترفضه العقول ويصور ذلك بسخريته:

لقد صدّق الناسُ ما الألبابُ تبطله

 

حتى لظنوا عجوزاً تحلب القمرا

أناقة هم أم شاة فيمنحها

 

عساً تغيثُ به الأضياف أو غمرا؟

ساد الجهل حتى تساوى المبصرون مع العميان.. ولعل المعري يثأر لعماه حتى يُكثر من السخرية بالمبصرين الذين لا يريدون الاستفادة من نعمة الإبصار التي وهبها الخالق لهم، يقول:

وبصيرُ الأقوام مثلي أعمى

 

فهلموا في حندسٍ نتصادم!

وأما المقلد الذي يعتمد النقل دون العقل، والذي لا يعمل فكره في شيء يعرض له يتناوله المعري بقوله:

في كل أمرك تقليدٌ رضيت به

 

حتى مقالك: ربي واحدٌ أحدُ

يؤمن المعري بقدرة الإنسان ـ العقل ـ على الإبداع المتجدد بتجدد الحياة، ويسخر من أولئك الذين يقولون في كل زمان: ما ترك الأول للآخر شيئاً.. يسخر قائلاً: "ليس أضرَ على العلم من قول القائل ما ترك الأول للآخر شيئاً" وقد عبر عن إيمانه هذا ببيته الشعري الأشهر

إني وإن كنت الأخير زمانه

 

لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل

ـ السخرية من شعراء التكسب:

يسخر شاعرنا من شعراء التكسب فلا يسلم أحد من صورة ساخرة نالته يقول:

تكسب الناس بالأجساد فامتهنوا

 

أرواحهم بالرزايا في الصناعات

وحاولوا الرزق بالأفواه فاجتهدوا

 

في جذب نفع بنظمٍ أو سجاعات([8])

ويعتبر المتكسب بالشعر إهانة أو وصمة عار على جبين الشعر الحقيقي:

ومغرم بالمخازي طالب صلة

 

مغرى بتنفيق أشعار لـه كسد([9])

ويقول: إذا سار شعر التكسب وانتشر بين الناس فإن الشعر الحقيقي يُصاب بالكساد:

يحق كساد الشعر في كل موطن

 

إذا نفقت هذي العروض الكواسد([10])

في كتابه (الصاهل والشاحج) يتحدث عن شعر التكسب على لسان الشاحج (البغل) فيقول:

"فإني كرهتُ أن أتصور بصور أهل النظم المكتسبين الذين لم يترك سؤال الناس في وجوههم قطرة من الحياء، ولا طولُ الطمع في نفوسهم أنفة من قبيح الأفعال".

لأن الشعر عند المعري "إذا جُعل مكسباً لم يترك للشاعر حسباً، وإذا كان لغير مكسب حَسُنَ في الصفات والنسب".

ولا يسلم (ابن القارح) بطلُ رسالة الغفران من سخرية أبي العلاء حين حاول أن يتوسل طمعاً بدخول الجنة يقول المعري على لسان بطله: "... زينتْ لي النفسُ الكاذبة أن أنظم أبياتاً في (رضوان) خازن الجنة عملتها على وزن:

قفا نبك من ذكرى حبيب وعرفان

 

ورسم عفت آياته منذ أزمان

ووسمتها بـ (رضوان) ثم ضانكت الناس، حتى وقفت منه بحيث يسمع ويرى فما حفل بي ولا أظنه أبهَ لما أقول..

ثم عملتُ أبياتاً على وزن:

بان الخليط ولو طووعتُ ما بانا

 

وقطعوا من حبال الوصل أقرانا

ووسمتها برضوان ثم دنوت منه ففعلتُ كفعلي الأول.. فلم أزل أتتبع الأوزان التي يمكن أن يوسم بها رضوان حتى أفنيتها وأنا لا أجد عنده مغوثة ولا ظننته فهم ما أقول؟!

لم يستجب (رضوان) فملأ اليأس والحزن روح ابن القارح فصاح بأعلى صوته وقال:

"قد مدحتك بأشعار كثيرة ووسمتها باسمك.." فقال: ما الأشعار فإني لم أسمع بهذه الكلمة قط إلا الساعة؟ فقلت الأشعارُ جمعُ شعر والشعر كلام موزون تقبله الغريزة على شرائط...

وكان أهل العاجلة يتقربون به إلى الملوك والسادات..".

ولكن رضوان طرده فانصرف إلى خازن آخر يتوسل إليه بالشعر ولقي منه ما لقي من الأول... ولعل هذا الموقف صرف ابن القارح عن الاهتمام بآداب الجن معللاً بذلك بقوله: "لقد شقيتُ في الدار العاجلة بجمع الأدب ولم أحظ منه بطائل، وإنما كنتُ أتقرب به إلى الرؤساء فاحتلب منهم درّبكي.."([11]).

يتساوى المدح والهجاء عند المعري حين يبالغ المادحون (الشعراء) فيسبغون على الممدوح صفات ليست فيه يقول:

إذا أثنى عليّ المرء يوماً

 

بخير ليس فيَّ فذاك هاجِ([12])

 

***

 

سيّان عندي مادح متخرص

 

في قوله وأخو الهجاء إذا ثلب([13])

أما إذا بالغ المادح في إضفاء صفات ليست لبني البشر على ممدوحه فإن الهجاء في هذه الحالة يكون أفضل:

إذا كان التقارض من محال

 

فأحسنُ من تمادحنا التهاجي([14])

يقبل المعري الهجاء من (الحطيئة) لأن الهجاء عند هذا الشاعر يمثل الوجه الحقيقي لنفسه، ولعل هذا الصدق مع النفس والانسجام مع الذات هو الذي جعل مؤلف رسالة الغفران يجمع بطله (ابن القارح) مع الحطيئة ليصفه بالصدق في هجوه لنفسه.. وحين يذكره بممدوحه الزبرقان بن بدر يقول الحطيئة:

"انتفع بهجائي ولم ينتفع غيره بمديحي"([15])

السخرية من شعر المدح جعلت المعري يتنكر لشعر المدح الذي قال بعضاً منه في ديوان صباه (سقط الزند). قال في مرحلة عزلته ونضجه: "مدحت فيه نفسي فأنا أكره سماعه" ويقول تلميذه التبريزي "رأيته يكره أن يُقْرأ عليه شعر صباه في (سقط الزند) وكان يحثني على الاشتغال بغيره من كتبه مثل "لزوم ما لا يلزم"([16]).

ـ سخريته من الأدباء المتكسبين:

أمام عجز الأدباء والمفكرين العرب عما يجري في الوطن العربي.. وأمام شجاعة بعض أصحاب الضمائر الحية من الأدباء والمفكرين في العالم؛ أمام هذا وذاك تتألق سخرية المعري من أدباء عصره الذين يقودون الناس إلى الكذب والذل:

وما أدب الأقوام في كل بلدةٍ

 

إلى المين إلا معشر أدباء

بهذا البيت أعاد المعري كلمة أدب إلى معناه الأصلي ـ هو الدعوة إلى الطعام والأدب دائماً دعوة... إلخ... لكنه في بعض العصور صار دعوة إلى الموت لا إلى الطعام

وكل أديب أبي سيدعى إلى الردى

 

من الأدب لا أن الفتى متأدب([17])

صناعة الأدب ـ الإبداع ـ يربأ بها المعري أن تنزل إلى السوق فتعرض للبيع للطغاة والأغنياء، وهذا ما سخر منه صاحب (رسالة الغفران) في حوار تخيله بين إبليس وأديب حلبي "يقول إبليس: من الرجل؟ فيقول: أنا فلان بن فلان من أهل حلب، كانت صناعتي الأدب أتقرب به إلى الملوك فيقول إبليس: "بئس الصناعة إنها تهب رغفاً من العيش لا يتسع بها العيال وإنها لمزلة بالقدم"([18]).

ولا نظن أن المعري يقف بسخريته عند أهل الأدب فقط، بل يتعدى ذلك ليسخر من المجتمع ـ بكافة فئاته وجوانبه ـ الذي لا يقدر المبدعين والأدباء حق قدرهم... لأن السائد في عصر المعري كما في عصرنا هذا أن الجاهلين يعيشون بنعمةٍ وغنى يفوق الحد، بينما لا يجد المبدعون ما يسدُّ رمقهم، ونتساءل هل هذا الواقع كان وراء صرخة المعري البائسة في اللزوميات؟‍!

إنا لِمَا نحنُ فيه من عنت

 

فكلنا في تحيل ودلس

ـ السخرية من بعض النحويين:

سخر المعري من النحاة واللغويين الذين عقدوا مسالك النحو وأحالوه إلى طلاسم وألغاز بعد أن كان مع الأوائل من النحويين حلو المجتنى يلبي حاجات النطق، حيث لم يكن فيه تكلف أو تصنع على يد أبي الأسود الدؤلي والخليل بن أحمد، ولكنه صار صعباً مطلوباً لذاته على يد الأخفش والكسائيُ والفراء وأمثالهم الذين عقد لهم في رسالة الغفران مجالس ساخرة وشغلهم بجمهرة من المسائل النحوية والصرفية واللغوية وجعلهم في الفردوس (متحابين) بعد أن كانوا في الدار العاجلة (متباغضين).

فقد غسل صدر أحمد بن يحيى (ثعلب) من الحقد على (محمد بن يزيد (المبرد) فصارا يتصافيان ويتوافيان... وسيبويه قد طهرت سويداء قلبه من الضغن على علي بن حمزة (الكسائي) وأصحابه لما فعلوا به في مجلس البرامكة.

وقد شغل النحاةُ بطلَ رسالة الغفران ابن القارح بكلامهم حتى ضاع منه صك التوبة وجعل يلومهم على هذه الضجة قائلاً: "كنت قد رأيت في المحشر شيخاً لنا كان يدرس النحو في (الدار العاجلة) يعرف بـ (أبي علي الفارسي) وقد امترس به قوم يطالبونه ويقولون: تأولت علينا وظلمتنا فلمّا، رآني أشار إليَّ بيده فجئته فإذا عنده طبقة منهم (يزيد بن الحكم الكلابي) وهو يقول: ويحك أنشدت عني هذا البيت برفع (الماء) يعني قوله:

فليت كفافاً كان شرك كلُّه وخيرك عني ما ارتوى (الماء) مرتوي

ولم أقل إلا (الماء) بالنصب، وإذا جماعة من هذا الجنس كلهم يلومونه على تأويله فقلت: يا قوم: إن هذه أمور هينة فلا تعنتوا الشيخ فإنه يمت بكتابه في (القرآن) المعروف بـ (كتاب الحجة) وأنه ما سفك لكم دماء ولا احتجن عنكم مالاً فتفرقوا عنه([19]).

ويعقد بين اللغويين ـ في جنته ـ حواراً ـ فينصرفون عما هم فيه من نعيم يتجادلون حول اسم (سلال) في الجنة([20]).

ومعظم النحاة عند المعري ـ أهل تزيّد ومبالغة لم يتورعوا من الاستشهاد بكلام طفل أو امرأة ليست بذات بال([21])…. وبلغت سخريته بالنحاة أن جعلهم مشغولين ببطونهم بعد أن اطمأنوا لمكانهم في الجنة فأبو عبيدة اشتهى طاووساً مشوياً من طواويس الجنة وقد رآه طائراً يروق من رآه حسناً متمنياً أن يشوى بالخل فيكون كذلك في صفحة من ذهب… وحين تمر إوزة من فوقهم تشرئب أعناقهم فيشتهيها بعضهم مشوية أو كَرْدَناجاً أي كباباً بالفارسية، أو معمولة بـ (سماق) أو بـ (لبن وخل). فتكون على ما يتمنون، وحين بلغوا ما تمنوه قال أبو عثمان المازني للأصمعي: "يا أبا سعيد. ما وزن إوزة؟ فيقول الأصمعي: "أإليّ تعرّض بهذا يا فُصْعُل؟"([22]) وطالما جئت مجلسي بالبصرة وأنت لا يرفع بكَ رأس([23]).

وتجلت سخرية المعري بالنحاة حين صور فرح أهل الجنة بضياع النحو.. فرحوا لأنهم عندئذٍ فقط سوف يتكلمون بلغة الأصول النقية التي لم تصلها يدُ نحوي لأن الناس احتاجوا في الدار الفرارة إلى علم النحو واللغة لأن العربية الأولى أصابها تغيير".

بهذه الإشارات الدالة الساخرة يضع المعري أيدينا على فكره اللغوي القائم على العودة إلى الأصول الصافية… وإذا كان يؤمن بضرورة النحو من أجل سلامة اللغة.. فإنه أعلن في جدّه وسخريته عدم ثقته بالنحو المتخم بالتكلف والاصطناع والتأويل، الأمر الذي دعاه لأن يهتف في كتابه "الأيك والغصون" يا نحو يا نحو حُقَ لما كتب فيك المحو"([24]).

سخر المعري من النحاة وتخيل جدلهم ونقاشهم مثل هدير الجمل إذ أضاع المتأخرون النحو التقي الأصيل الذي خلفه الأوائل.. فلو عاش الدؤلي حتى يسمع كلام الفارسي في الحجة ما فهمه ـ فيما أحسب إلا فهم الأمة هدير السنداب([25]).

بعضُ الشخصيات.. بعضُ القضايا.. تبقى أهميتها براهنيتها وليس بتاريخيتها.. وحديثنا اليوم عن المعري لراهنيته حيث ابتعد بنفسه عن الانشغال باليومي الزائل بأدب المناسبات. وعانقه شوق الكتابة العقلية المفتوحة الآفاق بحيث تتعدد القراءة معها بتعدد القراء…

فمن قرائه منْ وجد في كتابات المعري سيطرة العقل على الإبداع.. ومنهم منْ وجد مرارة السخرية ومنهم منْ وجد الآثار النفسية للحرمان الذي عاشه سجين المعرة الذي لم يستطع التواصل مع الآخرين إلا من خلال الإبداع الذي حاول من خلاله فتح حوار مع الآخرين كما حاول من خلاله تجاوز الهوة التي تفصله عن الآخرين فبنى مملكته من الكلمات والصور "الخيال" ولعل لذة الإبداع والكتابة كانت البديل عن التواصل مع الآخرين.

السجن المركب الذي عاشه فتح خياله الأدبي وحسَّه الفني فانبرى يبدع… فكانت (رسالة الغفران) إحدى الثمرات تميزت بقضايا هامة منها… تمردها على الأجناس الأدبية المعروفة في النثر العربي حتى أيام المعري.. تعدّى فيها المقامة وتعدّى الرسالة الإخوانية كما تعدّى النثر المسجوع. وأعاد للنثر العربي حريته التي عرفها عند (الجاحظ)..

كل ذلك وغيره جعل (رسالة الغفران) مأدبة أدبية متنوعة الأشكال والصنوف والألوان فيها من الترسل طرف ومن الخير الأدبي نصيب ومن الخرافة والأعاجيب ألوان.. فيها المقامة، فيها الشعر بنفحه وإيقاعه…

هذا التنوع غذى (رسالة الغفران) بهذه الشعرية الفذة التي لا تنفك تغذي القراءة وتفتح أبواب البحث والدراسة.

هذه إطلالة مفيدة بحدود الوقت على السخرية عند أبي العلاء (المعري) الذي لم تفارقه الابتسامة طوال رحلته في (رسالة الغفران)…

والواقع أن المعري هو الذي قام بتلك الرحلة وليس صديقه ابن القارح الذي هو هنا في رسالة الغفران قناع للمعري، اسم مستعار له، دريئة يختفي وراءها رغم حقيقته التاريخية.

في هذه الرسالة يبلغ المعري ذروة السخرية الأمر الذي رفعه إلى مصاف الساخرين الإنسانيين العالميين الكبار.. إذ تميز بهذه الرسالة بروعة الخيال وعبقرية السخرية. ودائماً.. العبقرية المبدعة لا مكانية ولا زمانية كما يقول فيتكور هوغو.

المصادر والمراجع

1 ـ أبو العلاء المعري بين الشعر والفلسفة، مصطفى موسى، مقال في مجلة الفصول الأربعة ـ ليبيا ـ السنة الرابعة ـ العدد 27 كانون الأول عام 1984 ص 102 ـ 111.

2 ـ أسلوب أبي العلاء، عمر فاخوري، مقال في مجلة الطريق، العدد 18 ـ 19 تشرين الأول عام 1944 لمناسبة الذكرى الألفية لمولد أبي العلاء المعري ـ وقد أعيد نشر المقال في مجلة الطريق ـ العدد الثاني، نيسان 1982.

3 ـ بين أبي العلاء وهنري ميشو، رفيق حويجاتي، مقال نشر في مجلة (المعلم العربي) العدد الخامس عام 1983.

4 ـ رسالة الغفران، أبو العلاء المعري. تحقيق الدكتورة عائشة عبد الرحمن، بنت الشاطئ ـ القاهرة. طبعة دار المعارف بمصر 1963.

5 ـ اللزوميات ـ لزوم ما لا يلزم، أبو العلاء المعري، أشرف على الاختيار والتصحيح عمر أبو النصر، بيروت، دار عمر أبو النصر وشركاه. الطبعة الثالثة عام 1971.



* باحث من سورية.

([1])  أدونيس مقدمة الشعر العربي ص 41.

([2])  رسالة الغفران ص 338 ـ 339.

([3])  هادي العلوي.. المنتخب من اللزوميات. ص 205.

([4])  رسالة الغفران ص 176 ـ 177.

([5])  سورة طه ـ آية 115.

([6])  رسالة الغفران ـ ص 360.

([7])  هادي العلوي ـ المنتخب من اللزوميات.

([8])  اللزوميات ـ دار عمر أبو النصر وشركاه ص 60.

([9])  اللزوميات ـ دار عمر أبو النصر وشركاه ـ 1/233.

([10])  اللزوميات ـ دار عمر أبو النصر وشركاه ـ 1/229.

([11])  رسالة الغفران ـ بنت الشاطئ 292 ـ 293.

([12])  اللزوميات ـ دار صادر 1/372.

([13])  اللزوميات ـ دار صادر 1/280.

([14])  اللزوميات 208.

([15])  رسالة الغفران 307.

([16])  شروح سقط الزند 1/3.

([17])  اللزوميات ـ دار النصر وشركاه 1/71.

([18])  رسالة الغفران 309.

([19])  رسالة الغفران 254 ـ 255.

([20])  رسالة الغفران 280 ـ 281.

([21])  رسالة الغفران 238.

([22])  فُصْعُلْ: من أسماء أو الصغير من ولدها (يوصف به الرجل اللئيم) هامش رسالة الغفران.

([23])  رسالة الغفران ص 283.

([24])  رسالة الملائكة ص 45.

([25])  الفصول والغابات ص 109 ـ السنداب: الجمل الغليظ الشديد.