1 ( أسلوب التوحيدي و لغته :
أ-أسلوب التوحيدي: تجلّى احتفاء التوحيدي بالعقل في مستوى الأسلوب من خلال القرائن التالية :
****كثافة حضورالاستفهام و الأسئلة و المسامرات مثال (ما الحلم ؟ ما الحسد ؟ ما الشجاعة ؟ ماالرّغبة ....) و هو أسلوب ساهم في تأسيس ليالي الإمتاع و المؤانسة . يقول زكرياإبراهيم :" التوحيدي فيلسوف التساؤل , لأنّ لديه روحا تساؤلية تعشق الجدل و لا تكاد تكفّ عن إثارة السؤال تلو السؤال "
****حرص التوحيدي على التوسّع و الأطناب و التّنقيب و الاستقصاء و الشّرح المستفيض و التّفصيل للفكرة أوالمسالة الواحدة (حديث أبي حيّان عن النفس في الجزء الأوّل (
****التدقيق في بعض المسائل لنزع الشبهة و ضمان الدّقة : مثال لما سألها لوزير ابن سعدان عن الفرق بين تفعال ( التاء مكسورة ) و تفعال ( التاء مفتوحة ( فقال له التوحيدي " المصادر كلها على تفعال بفتح التّاء و انّما تجيء تفعال ( التاء مكسورة في الأسماء (
****تواتر أسلوب التعليل : فكثيرا ما يقدم التوحيدي الفكرة ثمّ يفصّل النظر فيها تفصيلاتعليليا.
مثال لما سألهالوزير " ما الفرق بين الإرادة و الحياة " قال أبو حيّان :" كلّ مراد مختار و ليس كلّ مختار مراد
****استعمال مفاهيم علمية و مصطلحات فلسفية و عبارات تجريدية .مثال : الرّوح- الحقيقة –الهيولي -الصّورة..
****أسلوب التّوليدالسّقراطي و ذلك من خلال الانتقال من البسيط البديهي إلى المعقّد المركّب و من خلالالانطلاق من معنى رئيسي ثمّ الشرح التفصيلي ,تسلسل الأفكار , توالدالأفكار...
**** تقريب المعنى بضرب الأمثال .
ب (لغة التوحيدي :
ترتبط لغةالتوحيدي ارتباطا وثيقا بشخصيته المتميّزة . فكما تميزت شخصية هذا المفكر شاع في أسلوبه الازدواج . فكتاب الإمتاع و المؤانسة تمرّد على أسلوبه الازدواجو التناقض. فكتاب الإمتاع و المؤانسة تمرّد على أسلوب السّجع و حافظ على توازن الجملة . يقول " الإنسان ذو قوّة متقاصرة و موانع معترضة ,و إنّه مع هذه الأحوال منتبه بالحسّ عالم بالعقل, عاشق للشاهد , ذاهل عن الغائب ...".
و قد استطاع التّوحيدي أن يتحرّر من تعسّف أساليب الفلاسفة و وضع أسلوبا متوازنا لم يجعل اللّفظ القصير فتسحر به عن المعنى العريض, فإنّ اللّفظ للعامة و المعنىللخاصة"
و هذا لا يعنيأنّه يستهين بدلالة الألفاظ بل إنه يحذّر في الاغترار باللّفظ الذي سيطر على لغةأدباء عصره و العصور القريبة منه.
لقد تحرّرالتوحيدي من قيد السّجع (المقامات-الرّسائل...) و عوّضه بالتوازن بين الفقرات و هوما أسماه النقاد القدامى بالسّجع المعطّل حيث يقسّم الفقرات إلى جمل قصيرة أشبه ماتكون بالأساليب الشعرية الحديثة يراعي في ذلك التنغيم اللّفظي . و هذا ما جعل لغته جسرا بين الشعر و النثر . و يقول " أحسن الكلام ما رقّ لفظه و لطف معناه و قامت صورته بين نظم كأنه نثر و نثر كأنّه نظم ".
ج (أنماط الكاتبة عند التوحيدي :
1 الحجاجي : تنوّعت المسارات الحجاجيّة التياعتمدها التّوحيدي في الإمتاع و المؤانسة و يمكن ذكر المسارات الحجاجيةالتالية:
أ -المسارالحجاجي البرهاني : و هو ضرب من الحجاج يقوم على البرهنة وفق انساق متعددة وهما النسق الاستنباطي( الانطلاق من العام إلى الخاص ) و النسق الاستقرائي (الانطلاقمن الخاص إلى العام(.
****مثال للحجاجالبرهاني الاستنباطي: انطلاق التوحيدي من فكرة الخلق الإلاهي عامّة ثم تدرّج إلىالتميّز الإلاهي للإنسان بالعقل لينتهي إلى المقارنة بين الإنسان و الحيوان . فيرىأنّ الإنسان مفضّل على الحيوان بالعقل لأنه يختار أفعاله بينما الحيوان ملهم غريزي .
****مثال للحجاجالبرهاني الاستقرائي: انطلاق التوحيدي من ظاهرة الاختلاف بين المذاهب ليتدرّج منهاإلى مظاهر أخرى في الاختلاف (الاختلاف في تفضيل الأمم و الرّجال و المال ...) ليخلصإلى قاعدة عامة جوهرها أنّ الاختلاف ظاهرة ملازمة للإنسان و لا يمكن بأي حال منالأحوال أن تزول .
ب - المسارالحجاجي القائم على العرض: و هو ضرب في الحجاج يقوم على عرض أطروحة ما فتحليلهاو التوسّع فيها. و من أمثلة ذلك :
****أطروحة شروطصلاح الدنيا ( نصّ متى تطيب الدنيا) : عرض التوحيدي الأطروحة ديوجانس التي تقرّبانّ صلاح الدنيا لا يتحقق الاّ بالتلازم بين الفلسفة و السلطة , ثمّ توسّع بالاستدلال عليها من عرض مجموعة من الحجج تدعم أطروحة ديوجانس و تؤكد حاجة السائسإلى الاستنارة بآراء العقلاء.
ج - المسارالحجاجي الحواري : و هو ضرب من الحجاج يقوم على عرض الرّأي و نقيضه و يتجلّىهذا النوع من الحجاج في المناظرات و المساجلات من ذلك:
****المناظرة بينكتابة البلاغة و الإنشاء من جهة و بين كتابة الحساب من جهة أخرى ( نصّ البلاغةوالحساب ) فهذه المناظرة أطرافها صاحب البلاغة ( التوحيدي) و صاحب الحساب (ابن عبيدالكاتب ) و هي مناظرة انتهت بالإنتصار للبلاغة و تفضيل الكتابة على الحساب .
**** المناظرة بين النثر و الشعر : هذه المناظرة أطرافها راو مناصرللنثر و التوحيدي ضمنيا و راو مناصر للشعر من جهة أخرى و التي انتهت بتفضيلالنثر.
****المناظرة بينالنّحو و المنطق و التي جرت بين مناصر النّحو أبي سعيد السّيرافي و مناصر المنطقمتّى بن يونس و التي انتهت إلى تفضيل النحو على المنطق في إشارة إلى أفضلية الثقافةالعربية على الثقافة اليونانية.
إن تنوّع مضامينالحجاج و مساراته من شأنه أن يولّد منطقيا تعدد الحجج و من أهمهانذكر:
--الحجّةالدينية
--الحجّةالواقعية
--الحجّةالتاريخية
--الحجّةالقولية
-- حجّةالمشابهة
-- حجّة الشاهدالقولي
-- حجّةالمنطق
و أمثلة هذهالحجج تزخر بها نصوص الإمتاع و المؤانسة.( أنظر النصوص المشروحة في حصص شرح النص( .
ملاحظة : أنواع الحجج على قدر كبير من التنوّع والتعدّد.
ب - الأسلوب التعليمي
لقد خضعت مسامرات الإمتاع والمؤانسة إلى جدلية الوزير السائل و التوحيدي المجيب . و هي جدلية تذكرنا ببنيةالحكاية المثالية في كتاب "كليلة و دمنة " أين نجد الملك دبلشيم يسأل و بيدياالفيلسوف يجيب و هذا ما أضفى على بعض المسامرات الطابع التعليمي و من العلاماتالدّالة على ذلك:
- توظيفالحكايات و الأمثلة لاستخلاص العبرة منها.
- تفرّدالتوحيدي بالإجابة مما يجعل كلامه مستفيضا طويلا ( عكس الحوار السّجالي ) و في ذلكإشارة إلى أن التوحيدي هو صاحب رسالة عليه أن يؤديها ( الإصلاح – الإرشاد (
-أسلوب التضمينو أسلوب متواتر في نصوص الإمتاع و ذلك لإيصال موقف و رأي التوحيدي مع تجنب المواجهةو الصّدام مع ابن سعدان .
- توظيف الحججالمتنوّعة لحمل الطرف الآخر على التراجع عن موقفه.
- تحوّل موقفابن سعدان و حالته من الجهل إلى العلم و ذلك في نهاية أغلب المسامرات .
يقول :" فقال (أي الوزير " :(ما كان عنديهذا كلّه".
-تواتر الأساليبالإنشائية ( الأمر-النهي-الاستفهام –التعجّب...) التي تضفي على النصّ طابعاتعليميا( النصح – التحذير-التوجيه (
"أماتعلم أن الرعية وديعة الله عند السلطان".
ج - الأسلوب السّردي : لقد جاءتالكثير من المسامرات شكلا من أشكال الكتابة النثرية المقصودة القائمة على الأسلوبالسردي . فقد هيّأ التوحيدي شروط النوع السردي فلم تكن المسامرات بعيدة الصلة عنتقاليد السرد القصصي في التراث السابق عليه. ذلك أنّ التوحيدي بدا متجاوبا مع (ألفليلة و ليلة ) و مع (كليلة ودمنة ) من زاوية وجود الحكاية الإطار التي يتولد منداخلها حكايات اقتضت بدورها تقسيم الليالي و ترتيبها. و قد تبين لنا كيف كانت عمليةاسترجاع التوحيدي لما دار بينه و بين ابن سعدان قائمة على السرد حتى أصبح هذا السردبدوره إطارا خارجيا للمحاورة أو بعبارة أخرى تولدت المحاورات في داخل السرد ثمّتولّدت المحاورة بعد ذلك من داخل المحاورة .
لقد تجاوبالتوحيدي مع تقاليد القصّ السّابقة من خلال توظيفه لبنية الخبر و ما يتأسس عليه منسند و متن على شاكلة أخبار الجاحظ و التي تتوفّر فيها مقومات السّرد من أطر وشخصيات و أحداث و تداخل في أنماط الكتابة (خبر ابن يوسف و خبر المعتضد مع ابنسليمان( وننبه إلى أسلوب السرد لا يخرج عن النزعة العقلية التي توخاها التوحيدي فيكتابة الإمتاع والمؤانسة فهذه الأخبار والحكايات هي بمثابة حجج واقعية تاريخيةلأطروحات ضمنية . مثال : خبر ابن يوسف يمكن أن يكون هذا الخبر حجة تدعم أطروحةضمنيةهي فساد العلاقة بين الحاكم والحاشية في بلاط السلطة.
د -الأسلوب الوصفي التسجيلي : يمكن اعتبار مسامرات الإمتاع و المؤانسة وصفا تسجيليا لأحوال مجتمع القرن الرابعللهجرة . يقول أحد النقاد :" و أيّا ما كان ,فالكتاب يلقي نورا كثيرا على العراق في النّصف الثاني من القرن الرّابع أعني في العصر البويهي".
فرسم الكتابلأحوال المجتمع جعل من صاحبه منخرطا في الواقع تصويرا و رسما . فالمؤانسة في كتابالإمتاع و المؤانسة ليست مؤانسة ممتعة فقط و إنما هي مؤانسة جادة . يقول زكرياإبراهيم :" تحدّدت شخصية أبي حيّان التوحيدي بثورته على أخلاق المجتمع الذي كان يعيش فيه و نقده لسائر الناس الذين كان يحيا معهم , و تمرّده على العصر الذي كان ينتسب إليه".
على أننا لا يجبأن نعتبر العديد من المسامرات وثائق تاريخية ( قصّة الفتنة ) بل هي عمل أديببالأساس لذلك يجب تخليص هذه المسامرات و كتاب الإمتاع و المؤانسة من وهم التاريخ والتعامل مع ما جاء فيها بإسقاط البعد التاريخي لأنّ التّوحيدي أديب و ليس مؤرخا و إنكانت مادة أدبه متصلة بالتاريخ و ذلك لعدة أسباب :
-موسوعية ثقافةالتوحيدي الملّمة بالكثير من المسائل و منها التاريخية.
-التوحيدي لايسعى إلى تأريخ الأحداث بقدر ما يسعى إلى النقد السياسي و الاجتماعي بطريقة أدبية, و الذي يؤكد هذا المنحى الأدبي عدّة قرائن :
**** خلو الكتاب من الأرقام و النسب و الموضوعيّة
****عدم البحثالعميق في الأسباب و النتائج.
****مزج السردالتاريخي بالوصف الانطباعي و الحوار مما يخرج الحديث عن طابعه التاريخي و يضفي عليهطابع المباشرة.
2 - مسائل متعلقةبالتوحيدي و فكره و أدبه :
-1 مركزية العقل في الإمتاع و المؤانسة :
احتل العقل فيمسامرات الإمتاع منزلة محورية باعتباره قطب الرّحى الذي تدور حوله جميع القضايا والمعارف . و هذا ما انتهى ببعض النقاد إلى اعتبار التوحيدي " أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء".
و هذه المنزلةالمحورية انتهت بأبي حيّان إلى عقلنة الأدب شكلا و مضمونا و هذا من شأنه أن يؤكدعلى:
أ- جدّية كتاب الإمتاع والمؤانسة : فقد تناولت مسامراتالكتاب قضايا جادّة و بروح نقدية تساؤلية توّاقّة إلى التغيير و إلى تخليص المعارفمن الوثوقيّة . و هذه الجدّية تؤكد غربة التوحيدي , فهو الجّاد في عصر الهزل و هوالعاقل في زمن أشباه العقلاء و هو المفكّر الحرّ في عالم التمهذب و هو اللاّمنتميفي زمن الفرق و الملل .
ب - تحرير الأ ديب من أدب التّسلية والتكدّي إلى أدب السؤال و المساءلة و من أدب الصّنعة و البديع إلى أدب صياغة علامةالاستفهام .
يقول أحمد محمّدالحوفي:" كان أبو حيّان مكتبة جامعة لأكثر هذه الثقافة , خبير بالنّحو و اللّغة و الدب و الكلام و التصوّف و الفقه و الفلسفة....".
و كتاب الإمتاعيخاطب العقل قبل القلب و يحفّز إلى التفكير لا إلى الاستفادة السّلبية أو السهلة . و يقول أحد النقاد عن الإمتاع و المؤانسة " هو كتاب ممتع على الحقيقة لمن له مشاركة في فنون العلم , فانّه خاض في كلّ بحر و غاص في كل لجّة ."
لميكن التوحيدي عالما بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى شامل كما أنّه لم يكن فيلسوفالأننا لا نستنتج من أثاره فلسفة أو مذهبا بل هو أديب و نحوي وفقيه و متكلّم أكثرمنه فيلسوف . فالتوحيدي إذن موسوعيّ يمثل أرقى ما وصلت إليه ثقافة الأديب في عصره , فقد شارك بأنواعها دون أن يتوغّل في أحداها فكانت له مزيّة التعبير عن عصر ازدهرفيه الفكر و نضجت فيه العقلية العربية و ارتقى الفنّ الكتابي .
و التوحيدي اطمأنّ إلى مرجعه الأكبر اطمئنانا كاملا و آمن به إيمانا تامّا. و هو العقل , فهوأداة سبر الأغوار و كشف المجهول و ميزان الحكم و معيار الحقيقة . و من ثمّ لم يكن مستغربا أن يصفه أي العقل بقوله" أن العقل هو الملك المفزوع اليه و الحكم المرجوعإليه , لديه من كلّ حال عارضة و أمر واقع عند حيرة الطّالب ......به ترتبط النّعمة وتستدفع النقمة و يستدام الوارد و يتألّف الشارد و يعرف الماضي و يقاس الآتي , شريعته الصدق و أمره المعروف و خاصّيته الاختيار و وزيره العلم و ظهيره الحلم و كنزهالرّفق و جنده الخيرات و حليته الإيمان و زينته التقوى و ثمرته اليقين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق