لكي نفهم كيفية تعامل القارىء مع روايات نجيب محفوظ الذهنية
حصرا ، فلابد من أن نتأمل أولا مكانة التخييل في بنائية و وظيفية صناعة أفق
و أنزياحية الملفوظ السردي هناك ، حيث نشاهد بأن البناء الروائي لدى
محفوظ بحكم كونه تأليفا مرجعيا رغم وجود نفحة أحتمالية أشاراته المرحلية
المختلفة الى منظومة حركية دوال الواقع المتخيل ، و هكذا فأن القارىء يلاحظ
بأن للأشارة الوثائقية و السياسية دورا بارزا في أبراز حيثيات الواقع
الموضوعي هناك و عبر أستدراكات عمليات التخييل الواقعية التي أخذت تشكل
أبعادا ذهنية صعبة المراجعة و التدقيق و التقويم العابر ، لاسيما و أن
النص الروائي الذهني لدى محفوظ يبدو أنه قادم بحكم علائقية أنزياحات
مرحلية و تقويمية من الوقائع المضمونية و الشكلية من بنائية النص الروائي
. ان الحديث عن أدب نجيب محفوظ بمثابة السفر الأسطوري تحت سقف أمتداد
قرائي متين ، يجعل القارىء و دوال القراءة تبدو فعلا متحفزا و بشكل يتيح
للمتأمل المتلقي تدوين أنطباعاته النقدية و بشكل مغاير لحساسية التدوين
السردي ذاته . في الواقع منذ زمن و أنا داخل دوامة متسلسلة من القراءات
الروائية لنجيب محفوظ ، الى حين وجدت بداخلي ثمة ملاحظة أنطباعية حول عوالم
( تراجيديا البطل الواحد ) في مكونات نصوص نجيب الروائية
، و حين تسنى لي قراءة رواية ( بداية و نهاية ) و رواية ( الطريق ) و
رواية ( ميرامار ) أكتشفت بأن هناك أشكالية ضخمة و كبيرة لوعينا النقدي
الذي لم يتاح له التعرف عليها و بشكل يأخذ هذه الظاهرة بمنظور مكافح أو
أنتقادي لسلبيات طغيان
( تراجيديا البطل الواحد ) فروايات
نجيب محفوظ تعرض للقارىء دائما واقع الحارات و الشخوص و الأحقاب التأريخية
المصرية من باب و من حدود أختفاء و غياب وجهة النظر الجماعية و العمل
المشترك في صناعة و توليد ذروة الحدث الدرامي العام ، فمثلا لاحظنا بأن
الجوانب الفكرية و السلوكية لدى الأفراد العادية في روايات محفوظ ، تكون
دائما أسيرة ظاهرة و سلوك تفرد ( البطل الواحد ) أو بألاحرى أن صح التعبير
الشخصية المركزية في الرواية و الى درجة صارت هذه الظاهرة مألوفة جدا و حتى
في أجواء السينما المصرية ، حيث نلاحظ تسيد على أحداث و شخوص الفلم بما
يسمى ( النجم الواحد ) و هذه الظاهرة مع الأسف لم يلتفت اليها النقاد
المصريين و العرب بمنظور المعالجة الجادة . أي بمعنى أن النقاد لم يتعاملوا
مع هذه المحورية المركزية من زاوية عادلة من حيث وجود باقي الشخوص إزاء
فرعونية شخصية البطولة الدرامية ، في حين تبقى باقي شخوص الرواية مجرد
ديكورات أو قطعة أثاث داخل أحداث النص الروائي المحفوظي ، من هنا نلاحظ بأن
الوعي بظاهرة الشخصية المحورية و فعل طغيانها على باقي شخوص الرواية ،
تأخذ لها أمتدادا كبيرا داخل مساحة أزمنة و أحداث كل روايات نجيب محفوظ و
بشكل قاطع .
( البطل الواحد و حركة الشخوص )
أن
هيمنة وعي و سلوك البطل الواحد على باقي حركات و وجدانات الشخوص الروائية ،
تترك أثرا سلبيا كبيرا على نمو أحداث الرواية ذاتها ، حيث نرى بأن شخصية
البطل دائما هي ثمرة أنتصارات سياسية و مالية و أجتماعية و عاطفية ، أما
الأخرى فهي عادة ما تكون أسفل الدرج تطحنهم مشكلات و هزائم أجتماعية و
أقتصادية و أحباطات عاطفية أليمة ، و الواقع أن شخوص محفوظ و في غالب
رواياته يتميزون عن أشخاصه في المرحلة الروائية الأجتماعية ، و ذلك لأن سقف
مرحلة الرواية الذهنية هي من أكبر مراحل محورية البطل الواحد أذ نجد شخصا
واحدا فيها يقوم بتمثيل و تجسيد محور كل الحداث و الشخوص و كافة بقية
متعلقات مصائر الأفراد في الرواية . و لكننا أذا نظرنا الى هذه الروايات من
حيث مجموع شخوصها ، فأننا نشاهد تحديدا بأن رواية ( الطريق ) تختلف بعض
الأختلاف عن رواية ( الشحاذ ) و رواية
( اللص و الكلاب ) و
رواية ( ميرامار ) فأهم الشخوص في رواية ( اللص و الكلاب ) بعد شخصية سعيد
مهران هم الطفلة سناء و نبوية و الصحفي رؤوف علوان و الشيخ علي الجندي و
المومس نور ، و لكن المواجهة الأساسية نراها تقع في حدود خط محورية سعيد
مهران و رفيقه المرتد رؤوف علوان ، أما في رواية ( الشحاذ ) نشاهد أن أهم
الشخوص بعد شخصية عمر الحمزاوي هم الصحفي مصطفى و الثائر عثمان ثم الزوجة و
الأبناء و الراقصة وردة ممثلة الجنس و مثيرة الشبق لدى الرجال ، و تقع
المواجهة الرئيسية كذلك بين خط عمر الحمزاوي و الآخر الثانوي مصطفى
المنياوي . لعل القارىء يلاحظ مدى هيمنة شخصية البطل الواحد في الرواية
الذهنية المحفوظية ، و لدرجة أصبحنا كقراء نعتاد على رؤية الشخصية المحورية
و هي وحدها التي تتمتع بالجاه و الحب من قبل عشيقة ما أو راقصة خارج حدود
اللياقة الأجتماعية و التربوية لتلك الشخصية المحورية . أن معاينة الأحداث
في هذه الروايات التي حددناها بشيء من التفصيل و الكشف و عن حجم العلاقات
الداخلية هناك ما بين الشخوص و خصوصا بين ( اللص و الكلاب ) و رواية
(
الشحاذ ) حيث نرى بأن شخصية البطل الواحد و هو سعيد مهران أول من تظهر في
الرواية و آخر من ينتهي ، و الأمر كذلك في رواية ( اللص و الكلاب ) ، و
القارىء لعله أيضا يلاحظ حجم هذه الشخصية و مدى أهتمامها و أهميتها على
باقي مستوى أحداث الرواية ماضيا و مستقبلا ، و في رواية
(
الشحاذ ) نشاهد بأن عمر الحمزاوي ينتظر دوره في قاعة استقبال في عيادة
أحدى الأطباء ثم يكون آخر من يتكلم و يشير الى مدى مهاراته الخاصة في فهم
الناس و الأشياء و حتى في مجال الطب و العلوم التقنية المعاصرة ، في حين
أن عمر الحمزاوي هو رجل ليس له غير التحصيل التعليمي الفج من تجارب الحارة و
أهل المقاهي المصرية . و هكذا نتأكد من أن رواية ( اللص و الكلاب ) و
رواية ( الشحاذ ) و روايات أخرى ما هي ألا مؤشرات لتسيد و سيطرة الرجل
الواحد .
( البنية السردية و سيرة الأشياء )
أن
الرحلة الطويلة التي قطعها نجيب محفوظ في تشريح الجسد النصي الروائي قد
أزالت من لديه ذلك الحياد في العرض لمضمون سيرة الأشياء روائيا . و كذلك
فأن الجدية الموضوعية لديه قد أضحت فعلا أنحيازيا في أستعراض اللصوص و
الثوار و البغايا و رجال الدين و السياسة و الأدباء على كفة واحدة من
المعيارية الأبرازية . ثم و بالتالي التخفي وراء أقنعة البطل الواحد و وراء
مسيرة المخيلة و اللهجة العامية التي لا تحسن أحيانا وصف دقة الأشياء و
ضرورتها التعبيرية ، فمثلا في رواية ( الحرافيش ) كان لابد لنجيب محفوظ من
أن يتقمص ذلك الميراث الطويل للأنبياء و الأولياء ليرويه على شكل تضميني و
تجسيدي و بمحورية تأريخية من سيرة الشخوص و الأمكنة الوثائقية كما هو الحال
في رواية ( أولاد حارتنا ) و هذه الأنعطافات من سيرة الأشياء و الشخوص
لربما لها مكانة خاصة في عرض المشهدية السردية في صنع الأحداث ، فمثلا
نعاين رواية
( أولاد حارتنا ) حيث أخذت تعكس من جهة بعيدة
قدرة الوعي الفني في الوصول الى أنسجامات سيرية و فكرية هامة من صياغة
حدوس الشخوص ضمن مجال قراءة التحولات التأريخية الكبرى في تأريخ مصر
السياسي و الأجتماعي . أما في رواية ( الحرافيش ) فلا نجد هناك ثمة أستحضار
لأثر تأريخي أو سياسي أو ثقافي حتى ، فقط نلاحظ وجود عائلة المحور الأول
أو البطل الواحد و هي عائلة ( عاشور الناجي)
حيث تسليط
الأضواء على مسيرة تحولات الأشياء من خلالها و حركة سيرة الشخوص بمنظور
البطل عاشور الناجي نفسه ، أن الحركة السردية الحكائية في ( ملحمة الحرافيش
) تذكرنا بالسرد السيري في مذكرات أبطال الحكاية الخرافية في الأدب الشعبي
، حيث أن البطل الواحد من خلالها يظهر كما لو أنه يمتلك جناحان من الغيبية
و السحرية في نبوءة معرفة الغوامض و أمزجة طباع الآخرين من الشخوص ، في
حين أن عاشور الناجي كان في سيرورته السيرية أنسانا لقيطا أنقذه أنسان بسيط
و تثقف منه من أحد شخوص الرواية ، على حين غرة نلاحظ بأن نجيب محفوظ يمنح
هذه الشخصية المحورية ثمة مؤهلات و سمات خارقة للعادة ، فمثلا يحدس عاشور
الناجي هجوم الوباء على الحارة المصرية ، حيث يترتب على الناس ضرورة الهجرة
منها ، ثم بعد ذلك قاد الحارة حرفوشا من حرافيشها . أن الحارة و بمفهومها
السيري و الجذوري في رواية ( الحرافيش ) تقدم شخصية مغايرة للعادة التي هي
بلا مؤهلات حقيقية للبروز و السيطرة ، بل هي أنتاج تراكم عرقي من الأبطال
الذين هم حرافيش في هذه العائلة العاشورية ،بل أن القارىء يرى بأن مفهوم
البطل الواحد و مسمى الحارة المصرية ، قد أضحت مجرد زخارف و شكليات غير
متجوهرة داخل حدود المشهد الروائي و بشكل جدي و جاد ، بل أن هذه السمات
التي يتصف بها البطل الواحد لربما هي إيهامات مخيالية خارج حدود مشهدية
واقع الزمان و المكان في الحارة المصرية ، أن جوهر الحارة يمكن أن نراه
كذلك في رواية ( أولاد حارتنا ) حيث هذا الضرب من الوعي اللاتأريخي بشخصية
البطل الواحد و مواصفات مفهوم الحارة و الذي بات علامة جدلية بين المشهد
السردي و بين منطقة سيرة الأشياء ، أن تأملية محفوظ المركزة على مفهوم
الحارة و البطل الواحد ، لربما تتحول الى حركة ذهنية غير مبررة في نموذج
البطل المتجوهر في حركة الشخوص الأخرى و في علاقات جذرية المظاهر
الأجتماعية في بنية الرواية الذهنية .
( القارىء و جغرافية النص المحفوظي )
أن
الشخصية المركزية التي هي منتمية للفئات الوسطى أي تلك الشخصية التي تكون
دائما باحثة عن حلول نهضوية لمعضلتي التحرر و التقدم ، و هذا النوع من
الشخصيات ذات البطل الواحد تمتاز داخل مرحلة كتابية خاصة من زمن النص
الروائي لدى محفوظ ، و بدءا من رواية ( الكرنك ) و رواية ( حب تحت المطر ) و
رواية ( القاهرة الجديدة ) حيث نشاهد بأن بطل رواية ( القاهرة الجديدة )
محجوب عبد الدايم هو من يكشف السلبي الذي ينبغي تجاوزه أجتماعيا و سياسيا ،
و هذه الطريقة الفنية التي يتبعها نجيب محفوظ في مكونات هذا البطل الواحد ،
هي نموذج مركزي في التغلغل التصويري داخل واقع في جانبه الحكومي و
التصويري الواحد ، و خلاصة سلوكية هذا البطل أنه نموذج محوري يحاول معالجة
الأشياء بدوافع وجدانية و سلوكيات من يمتلك الأخلاق الرفيعة و المثالية
دائما . لهذا فأن القارىء لهذه الرواية يلاحظ بأن معظم مشاهد و لقطات النص
السردي تبقى داخل جملة حدوثات دلالية عامة من بنية علاقة شخصية البطل
الواحد إزاء شظايا ذلك الواقع السياسي و بكل دلالاته الشخوصية الأخرى
المفقودة و المهمشة . و خلاصة القول أخيرا : أن نجيب محفوظ في كتابته
للرواية الذهنية أتبع أساسا مفهوم البطل الواحد و صورية معالم الحارة
المصرية حيث الموضوع و الشكل معا و دون محورية أصوات و وجوه الشخوص الأخرى
في الموضوع الروائي ، بل أن البطل الواحد في رواية محفوظ الذهنية يشكل خليط
زمني و موضوعي في البناء المشهدي . و نجيب محفوظ من الروائيين الذين
أبتعدوا عن مقولات ( آلان روب ) حيث كان يقول بضرورة ألغاء دور الحكاية في
الرواية ، و بالتالي فأنه يشدد على أن الرواية يجب أن لا تحتوي على أي
شخصية أو بالأحرى على أي بطل ، و أن وجد ذلك البطل فلا أهمية له و أنما هو
شيء من الأشياء ، فنجد إزاء هذا نجيب محفوظ قد مال ميلا واضحا نحو تكثيف
الوجود الشخوصي في شخصية البطل الواحد و الى حد جعل الرواية الذهنية لديه
تبدو بأكملها تقوم على كاهل شخصية محورية واحدة ، بل أن البناء العضوي
للرواية لديه قد أبتعد عن عضوية الشخوص الأخرى و لغة الأشياء و الأشخاص
الأحادية ، كما أن الرواية تبقى لدى نجيب محفوظ هي موضوع الرواية ذاتها . و
زيادة على كلام مقالنا هذا حول روايات نجيب محفوظ ذات البطل الواحد ،
أجدني ميال و منذ زمن بعيد الى تسجيل هذه الوجهة النظر الشخصية من لدن طرف
كاتب هذا المقال الأنطباعي ، حيث أقول بادىء ذي بدء و من خلال سقف قراءاتي
الروائية لنجيب محفوظ ، أكتشفت بأن نجيب محفوظ خير ما يصلح له هو أن يكون
كاتبا يكتب في مجال الدراما التلفزيونية و السينمائية كمثال اسامة أنور
عكاشة و مصطفى محرم ، لأن غالب ما قد كتبه نجيب محفوظ من نصوص روائية هي
ليست ضمن التصنيف السردي للرواية الأدبية و بقدر ما هي لا تتعدى أن تكون
نصوص درامية أفضل لها أن تكون معروضة على شاشة تلفاز من من زمن القراءة و
على شكل
( متلقي / نص ) و هذا الشيء بدوره يعود الى أن
معظم الحوارات و الأوصاف لدى محفوظ قد جاءت أحيانا باللهجة العامية و بعيدا
عن اللغة الفصحى الواصفة بدقة و الأكثر جمالية ، بل أن هناك حالات و مواقف
في روايات محفوظ كانت بحاجة ماسة الى لغة مجازات و أستعارات بعيدة ، في
حين وجدناها اللغة العامية في سياقات محفوظ الوصفية فقيرة و شاحبة و دون
أية روح معبرة و واصفة بشكل يساعد على تحفيز الصور المشهدية : فأن على يقين
بأن لو كان يوسف أدريس كاتبا لتلك النصوص التي كتبها محفوظ ، لكان أكثر
أبداعا و جدية أدبيا ، و لكن من حسن حظ محفوظ أنه لم يظهر في زمن عبد
الرحمن منيف و جبرا إبراهيم جبرا و روائيين آخرين ، و لأنه أيضا قد برز في
زمن الأستعمار و ظروف حاجات الفرد المصري الواقعي اليومي الساذجة . فأنا
أكرر ما قد قلته و مسؤول أيضا عن كلامي هذا أن كان هناك معارض ما لكلامي
بأن نجيب محفوظ لم يكتب الرواية الأدبية يوما ما ، و بكافة مقوماتها
البنائية و السردية و الأدبية الكاملة ، بل أنه كتب نصوص حكواتية درامية
باللهجة العامية من الأفضل لها أن تكون على شكل حلقات مسلسل تلفزيوني يعرض
على نساء البيوت حين أفراغهن من أعمال الطهو و من مشاغل ترويض أطفالهن
الصغار الى حين نومهم . لذا أقول أخيرا و بتصميم قاطع . بأن نجيب محفوظ و
في بعض رواياته كان صانعا دراميا جيدا لأعمال تلفزيونية و سينمائية و ليس
كاتبا روائيا بارز لأدب روائي مقروء .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق