02‏/08‏/2008

الجابري وفهم القرآن الحكيم

شمس الدين الكيلاني

 الجابري وفهم القرآن الحكيم

مهَّد محمد عابد الجابري لكتابه الجديد «فهم القرآن الحكيم» (صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية - بيروت 2008)، بمؤلفه السابق «مدخل إلى القرآن» الذي صاغ فيه ممهداته الفكرية والمنهجية، وترك في حينه أصداء واسعة، ثم اتجه لإعادة تفسير القرآن، في كتابه الجديد، على ضوء اقتناعه بأن القرآن يخاطب أهل كل زمان ومكان، وبالتالي يخاطب أهل العصر، وقد اتبع، في ذلك، المنهج ذاته الذي اتبعه في كتابه السابق، مبيناً أن (فهم القرآن) لا يتعلق بمجرد النظر في (النص)، وفي التفسيرات السابقة، بل يجب أن يتم (الفصل) عن تلك التفسيرات، بربطها بزمانها ومكانها، وبحمولاتهما الأيديولوجية، كي يتم (الوصل) بين النص وعصرنا.

فاستعاد الجابري كتب التفسير السابقة، ليستنتج بأن علينا أن نتجاوز مجرد جرد موضوعات القرآن إلى فهم (الكتاب) ككل، وراعى في تفسير معاني القرآن إعادة ترتيب النزول، انطلاقاً من الفصل بين المكي والمديني من السور، ومراعاة معطيات كتب التفسير، وعلوم القرآن والحديث والسياق، ومبدأ: إن القرآن يشرح بعضه بعضاً. استعان الجابري بما يسميه علامات الإفهام، لتمكين القارئ من مرافقة النص القرآني، وذلك بوضع معنى اللفظ أو العبارة بين هلالين في النص، وبوّب التفاسير تبعاً لطبيعة الموضوع: سور متعلقة بالإلهيات، وأخرى حول الجنة والجحيم. إلخ. كما وزع تفسيره لهذه الأبواب، بتقديم عرض لأهم المرويات التي وردت حول السورة، كأسباب النزول، أو ما يساعد على الفهم، ومعرفة تاريخ النزول وظروف النزول، مع التحقق من (سلاسل السند). ومن ذكر المصدر، وبوضع الشروح الطويلة في الهامش، ويختتم ذلك بتعليق يستعيد فيه أهم مسائل الشرح. وقد راعى في تسلسل السور ترتيب النزول، فاتضح له أن هذا التسلسل يستبطن تسلسلاً منطقياً بين موضوعاتٍ تتمحور عليها مجموعة السور المتسلسلة، الشيء الذي يبين أن مسار التنزيل مساوق لمسيرة الدعوة. وهكذا ميّز بين ست مراحل في مسار التنزيل. ثلاثة منها خلال الفترة المكية: المرحلة الأولى، في النبوة والربوبية والألوهية، والثانية، في البعث والجزاء ومشاهد القيامة، والثالثة، في إبطال الشرك وتسفيه عبادة الأصنام، وخصص لها القسم الأول، وهو الكتاب الذي بين أيدينا. ثم يعدنا بأن القسم الثاني، سيضم المراحل الرابعة والخامسة والسادسة، وتشمل السور المتبقية من القرآن المكي. أما الكتاب الثالث (القسم الثالث)، فسيشمل على تفسير القرآن المدني. ومداره الأحكام والتشريع للدولة.

وعدد سور (المرحلة الأولى) وهي سبع وعشرون سورة، يكاد أن ينحصر مضمونها بالحديث إلى النبي أو عنه، أو بالرد على خصومه، يرسم فيها الخطاب القرآني نواة العقيدة، تبعاً لسنة القرآن بالتدرج. وتمركزت حول ثلاثة محاور: الرب، الله، الرحمن. فعمل الجابري على تتبع المعنى اللغوي لـ: الرب، الله، الرحيم، وجذورها في اللغات السامية، واستخداماتها في المرحلة (المكية)، فإذا كان لفظ (الرب) من أسماء الأفعال، يعود إلى الفعل التربوي، وينصرف معناه في القرآن إلى ما يفيد الرعاية، والتدبير والتنبيه، فإن لفظ (الله) من أسماء الذات، يخص المعبود الحق وحسب. ويلاحظ أن لفظ (الرحمن) لم يكن مستخدماً في قاموس عرب الجاهلية الديني، والرحمن اسم للذات لا يُطلق سوى على الله تعالى، بينما (الرحيم) اسم فعل يطلق على غيره أيضاً، أما لفظ (الرحمة) فيدل في اللغة على الرقة والتعطّف. وتجاوز الجابري التفسير اللغوي لهذه الأسماء، إلى تحليل مقارن يستحضر فيه معانيها في الديانات الإبراهيمية. تتميز (المرحلة الثانية) بتركيزها على موضوع (المعاد)، تبدأ بسورة (القارعة)، وتنتهي بسورة (القمر). فيكشف الجابري عما تتميز به تصورات القرآن عن تصورات اليهودية والمسيحية، وما يصلها ويفصلها عنهما، لينتقل إلى تتبع أصداء هذه التصورات عند الفلاسفة المسلمين. الذين كانت نظرتهم إلى المعاد امتداداً لنظريتهم في المعرفة القائمة على فكرة الفيض، فيض العقل الأول. يتلقى الفيلسوف بعقله حقائق العقل الفعّال، بينما يتلقاها النبي في مخيلته، وباكتمال المعرفة العقلية تستكمل نفس الفيلسوف كمالها، لاتصالها بالعقل الفعّال، وتصبح من جملة الجواهر المفارقة خالدة، وتغدو هذه السعادة هي جنة الفيلسوف.

ركّزت في المرحلة الثالثة على التوحيد، تضم خمسة عشر سورة طويلة، ذات عبارات جدلية. تخلل تفسير الجابري لها، تعليقات واسعة عن الجن والشياطين في اللغة، وأخبارها في المؤلفات العربية، وبسط تعليقاً واسعاً حول مفهوم التوحيد في القرآن، ختمه بعرض موقف الإسلام من التصوير، والتباس علاقته بالأصنام، فيربط تحريم التصوير بما إذا كان القصد منه هو التقديس. يبدو أن ما قدمه الجابري هنا، نوع من المغامرة العقلية الخصبة المحسوبة، التي اعتاد عليها منذ كتابه نقد العقل العربي، ومنذ ذلك الحين دشن طريقة جديدة في التعامل مع التراث، وهو في مشروعه الجديد لتفسير القرآن يرسي علاقة مع (النص المقدس) من الصعب تجاهلها، وتجاهل تأثيرها، حيث انطلق من منهجيات معاصرة لتقريب النص المقدس من مداركنا المنغرسة في القرن والعشرين.

ليست هناك تعليقات: