07‏/09‏/2008

المنصف الوهايبي:الملاحم الصغيرة والأبطال والقصائد الممكنة


إذا كان من السّائغ المقبول القول إنّ النّسيب أو شعر الحبّ موضوع من موضوعات الحماسة أو هو غرض من أغراضها، فليس أيسر من القول إنّ بقيّة الأغراض من مدح وهجاء وفخر ورثاء، وهي ما هي، في شعر العرب، أحقّ بهذا الاسم وأجدر.

أمّا المديح فهو خطاب "تقريظيّ" يأخذ بوظيفة تنبيهيّة قد لا تخفى. وهذه الوظيفة تتمرّس، في تقدير المعاصرين، بالشّفهيّ أكثر منها بالكتابيّ، بحكم أنّها وظيفة اتّصال أو تماسّ أساسا. على أنّ ما يدفعنا إلى أخذها بالاعتبار، وإن على حذر وتحرّز، أمور من أظهرها أنّ هذه الوظيفة تكاد تكون الأشدّ علوقا بالفرد، في حين التّخاطب أو التّواصل؛ لأنّها هي التي تثبّت الاتّصال، وبخاصّة في غرض مثل المدح يستغرق أكثر شعر العرب. فالمدحيّة قصيدة "حواريّة" تختلف اختلافا بيّنا عن غرض مثل الهجاء؛ لأنّها تكتب أساسا لتلقى أو تنشد في محفل، أو لأنّها تنضوي إلى "قصائد الحفل" بعبارة ابن رشيق. والحفل مثله مثل الإيقاع طقس حماسيّ جماعيّ حميم. ولعلّ ما يجمعه إلى الشّعر إنّما هو الطّابع الزّمنيّ الخاصّ الذي يميّزهما، حيث ينطوي المكان وينتشر الزّمان وكأنّه الأبد. وقصيدة الحفل إنّما تبني لنفسها حضورا كلّيا، فيتعارض زمنها الخاصّ والزّمن "الموضوعيّ" الذي يمكن ضبطه وقياسه. وقد أسلفنا أنّ العرب دأبوا على اعتبار الشّعر، وهو مديح في الأغلب الأعمّ منه، ديوانهم وسجلّ مآثرهم وبائد عوالمهم، و"نصّهم" الذي له من قوّة الأمر المقضيّ ـ وقد تنزّل منهم في الجاهليّة منزلة الدّين ـ ما جعله على تعاقب العصور يتخطّى الانقلابات الحاصلة في هيئة الشّعر زمانا ومكانا؛ ليبني هذا الحضور الزّمنيّ الكلّيّ، وهو في تقديرنا ميزة أيّ طقس حماسيّ سواء كان دينيّا أو شعريّا، فيثبّت زائلا ويحوّل عابرا أو غابرا إلى "حال" أو "ديمومة". وكلّما كان هناك "حفل" كان تواصل ومشاركة وكان "لعب" وكان "رمز". بل كانت حماسة.

وعلى أساس من هذا الاستدراك على الأصول، نسأل إن كان الشّعر الحماسيّ شعرا ملحميّا؟

من المفيد، للإجابة عن سؤال كهذا أن نعود بالملحمة ودلالتها إلى الأصل الأتيمولوجيّ لهذه المفردة في اللّغة الإغريقيّة. والمسوغ لذلك أنّ أرسطو يُعدّ من الأوائل الذين اعتنوا بالنّظر في هذا الجنس الأدبيّ (تجدر الإشارة إلى أنّنا أفدنا كثيرا، في هذه الورقة، من مادّة ملحمة" ضمن معجم Etienne Souriau, Vocabulaire d’esthétique, Ed PUF, Paris1990)

تفيد الملحمة أتيمولوجيّا فعل تأليف قصّة épos. ويستخدم أرسطو دونما تمييز épos وépopïa (ما يمكن تعريبه بالقصيدة القصّة). ومنذ تلك الحقبة كان مصطلح الملحمة épopée غير القصيدة الملحميّة نفسها التي تشكّل جنسا أدبيّا مخصوصا. غير أنّ المقايسات الاستعاريّة تذهب أحيانا إلى إضفاء خصائص العمل الملحميّ على نشاط غير أدبيّ في الأصل، أي على نشاط ملحميّ.

والواقع أنّ الجنس الأدبيّ قد حدّد منذ القدم بالرّجوع إلى القصيدتيْن الطّويلتين لهوميروس: الإلياذة والأوديسة. وقد مثّل هذان النّصّان نموذجا للملاحم الأخرى القديمة حتّى العصر الوسيط، وعصر النّهضة. غير أنّ هناك نصوصا ظهرت في مختلف هذه العصور ظلّت ملتبسة إذ لم يهتد التّصنيف إلى حسم أمرها أهي من جنس الملحمة أم هي غير ذلك. ففي العصر الحديث يتحدّث فيكتور هيغو مثلا عن "ملاحم صغيرة" petites épopées في ما يتعلّق بما سمّي لاحقا La légende des siècles. ثمّ إنّ الأمر توسّع بعد الأرسطيّة ليضفي صفة الملحمة على آداب غير إغريقيّة وغير أوروبيّة نظير ما نلفيه بشأن "الشّاهنامه" (أي "كتاب الملوك") للشّاعر الفارسيّ الفردوسيّ (القرن11م.)، أو القصائد الكبرى في الهند القديمة "الماهابـهاراتا" حيث دام تأليفها قرونا (من القرن الرّابع ق.م. إلى القرن الرّابع م.). ويمكن أيضا ذكر "الرّمايانا" التي ربّما يعود تأليفها إلى ما بين القرنيْن الثّاني ق.م. والثّاني م.

إنّ حدَّ الملحمة على أنّها قصيدة هو ما يجعلها تختلف عن الأجناس النّثريّة التي يمكن أن يكون لها نفَس ملحميّ دون أن تكون مع ذلك ملاحم. وبالفعل، فإنّ هناك ضربا من التّنظير يريد أن يذهب بالملحمة إلى حدّ النّثر. ويمكن أن نشير في هذا السّياق إلى لوكاتش في" نظريّة الرّواية" "إذْ يقدّر أنّ هناك شكلا جديدا للملحمة يعلن عن نفسه في بعض أعمال دوستويفسكي. غير أنّه بغضّ النّظر عن طرافة هذا التّأويل، فإنّه قد لا يجوز التّغاضي عن القيمة الجماليّة للملحمة المرتبطة بشكلها الشّعريّ؛ وهذا الشّكل ليس شكليّا البتّة، فالملحمة ليست مجرّد حكاية أو قصّة؛ وإنّما هي تحقّق خصوصيّتها بواسطة سحر الإيقاع وبواسطة الالتجاء إلى شكل مُطقَّس وشبه موسيقيّ حيث يتمّ تنزيل الكلمة منزلة أرقى من اللّغة العادية. وباختصار فإنّ الملحمة قصّة شعريّة مقدّسة، صُنعتْ لها قدسيّة خاصّة بها.

لكن كونها قصّةً، فإنّ هذا ما يميّزها عن القصائد اللاّسرديّة. وكما يبيّن أرسطو في "فنّ الشّعر" فإنّ الملحمة عمل محكيّ أو مسرود، وهو في تقابل مع التّراجيديا من حيث هي عمل ممثّل؛ فالتّراجيديا تتدبّر أمرها بالتّعويل على ممكنات الإخراج وحوامل العرض في حين يتعيّن على الملحمة أن تثير المتقبّل بواسطة الألفاظ فقط. وإلى ذلك فإنّ فعل التّراجيديا محدود بسبب شروط التّمثيل المسرحيّ؛ مثلا من جهة ديمومتها، في حين لا تخضع الملحمة لمثل هذه القيود ويمكن أن تغطّي مساحة زمنيّة أكبر.

وفضلا عن ذلك فإنّه يمكن أن نشير إلى الإسهاب من حيث هو خاصّية من خصائص الملحمة. وقد أقرّ أرسطو بمزيّة الإسهاب في الملحمة إذ يسمح بالتّعبير عن ممارسة هي واحدة ومركّبة في آن. وبعبارة أخرى فإنّ التّجربة التي تعبّر عنها الملحمة تجربة واحدة لكنّها متعدّدة الحلقات على نحو يتمّ فيه تطويرها بكفاية فائقة تحفظ التّوازن داخل تركيب مجموع الملحمة.

وبما أنّ هذا المقال لا يستحضر خصائص الملحمة بانتظام منهجيّ، نكتفي ببعض الملاحظات التي يمكن أن تكون مادّة أولية، نشير، حينئذ، إلى أنّه إذا كان من شأن الإسهاب أن يسمح للملحمة بأن تغطّي زمنيّة مطوّلة وبأن تشتمل على شخصيّات عديدة، فإنّها تكتفي بوضع عدد محدود من الشّخصيّات في الصّدارة على أساس دورها الأساسيّ والمفصليّ في مجريات القصّة. وهي تحرص على إبراز فرديّة كلّ شخصيّة من هذه الشّخصيّات وتفرّدها إبرازا قويّا. ولكنّها بالإضافة إلى تدبّر نوعيّة العلاقات والرّوابط بين هذه الشّخصيّات فإنّها تتولّى توجيه قوى ضخمة وجيشا عرمرما وأهوالا طبيعيّة عظيمة وقدرات خارقة (فوق-طبيعيّة)؛ تتولّى توجيهها بحسب علاقاتها بأبطال الملحمة؛ وهم البشر لا محالة: فعالَم الأثر هو دوما نفسه حتّى وإن داخلتْه الآلهة، عالَم في صميمه إنسانيّ تماما. وكما يلاحظ هيغل فإنّه عالَم حيث أفراد مستقلّون يشكّلون واحدا بفضل إرادتهم.

ولعلّ هذا ما يدعو إلى التّساؤل عن علاقة الملحمة بالفعل القويّ أو بممارسة القوّة؛أو بالحماسة. فهؤلاء الرّجال الملحميّون هم قبل كلّ شيء رجال يتحرّكون ويفعلون. لكنّ أفعالهم هي في الغالب مغامرات، بل هي معارك أو قل هي تتنزّل دائما في جنس المخاطرة؛ وهذا ما يميّز السّلوك الملحميّ، سلوك البطل حيث يتعلّق الأمر دائما بالمخاطرة الأشدّ، أي المجازفة بما هو أساسيّ لدى الإنسان: حياته. وإذا ما حدث وانزلقت إلى فضاء الملحمة –وهذا يحدث أحيانا- مشاعرُ رقيقة فذلك ذو وظيفة جماليّة تتمثّل في إبراز التّعارضات الفاعلة والمؤثّرة في سير الأحداث والتي تؤلّف مجموع الملحمة. ذلك أنّ الملحمة لطبيعتها الدّيناميكيّة تحتاج إلى تعارضات أو تقابلات (أي قوى متضادّة) وليس إلى قوالب تشلّ الحركة.

نستطيع إذن أن نجمل تعريف الملحمة على نحو مبسّط هو بالتّأكيد لا يفيها حقّ المفهوم؛ فنقول إنّ الملحمة سرد شعريّ مسهب يتعلّق بممارسة هائلة للقوّة تكون في نفس الوقت واحدة ومتنوّعة، كما تكون مترامية إلى أفضية وأحداث متفرّقة، لكنّها تكون في نفس الوقت متمحورة حول عدد محدود من الأبطال. وهذا التّعريف لا يعفي طبعا من تطارح كثير من الإشكالات التي ما زالت بعدُ تعلق بكلّ تناول لجنس الملحمة. من ذلك، مثلا، هل تقتضي الملحمة بالضّرورة استحضارا للعجيب؟

و ما يدفع إلى مثل هذا السّؤال، هو أنّ معظم الملاحم تستدعي إلى دائرة أحداثها آلهة، وشياطين، وملائكة، وقوى غريبة غامضة.. فيكون السّؤال: هل يمثّل حضورها شرطا جماليّا للملحمة؟

لقد أثارت هذه المسألة بعض الخلافات بين بعض الدّارسين للملحمة، ويمكن أن نكتفي في هذه المناسبة بالإشارة إلى ما يقوله هيغل من أنّ إدماج الآلهة في الملحمة من شأنه أن يوفّر حضورا عينيّاوذاتيّا لقوى هي في الأصل قوى جوهريّة وكلّية، أي موضوعيّة. ويكون ربطها شعريّا بالملحمة من قبيل ما ينحت هويّة موحّدة للآلهة والبشر حيث يتمّ التّأليف في نفس الوقت بين القوّة الكونيّة (الوظيفة الرّمزيّة للآلهة والخوارق الطّبيعيّة) وما يجري في الحياة من طباع (الوظيفة الرّمزيّة للبشر). وعليه تكون الوظيفة الجماليّة للعجيب في الملحمة هي نفسها: أن توفّر للممارسة البشريّة أصداء هائلة تتجاوب في أبعد ما يكون من أفضية العالَم، فيتمّ إضفاء طابع إنسانيّ على هذا العالَم.

وفي الجملة، فإنّه يمكن القول في ما يخصّ شروط الملحمة أنّ هذه الأخيرة ظهرت منشدّة إلى مقتضيات يبدو أنّها تمثّل هي نفسها جزءا من تعريفها ومن طبيعتها. لكن ذلك لا يعفي من التّساؤل عمّا إذا لم تكن الملحمة شكلا مرتبطا بحضارات دون أخرى، أو بمجتمعات لم تعرف فكرة "الدّولة" بعد (وهذا ما يطرحه هيغل)، أو بيقظة الحركات القوميّة.

فلعلّ في هذا ما يسوّغ ترجمة الشعر الحماسي بالملحمي، على ما في هذه التّرجمة من قلق العبارة، إلاّ إذا وقفنا بكلمة "ملحمة" على معناها المبذول أي الموقعة العظيمة أو الاقتتال العنيف أو الأعمال البطوليّة التي تثير الإعجاب والدهشة. والملحمة أجلّ شأنا من ذلك. ولا نملك، في هذا السياق،إلاّ أن نشاطر القائلين بأنّ العرب لم يعرفوا الملحمة إلاّ في الأزمنة الحديثة: "الإلياذة الإسلاميّة" لأحمد محرم، وهي قصيدة طويلة تروي سيرة النّبي محمّد، و"على بساط الريح" لفوزي المعلوف، و"عيد الغدير" لبولس سلامة، وأساسها واقعة الغدير الشيعيّة.

أمردّ ذلك إلى قاعدة القافية الواحدة التي حالت دون إنشاء القصائد الطّوال كما جاء في دائرة المعارف الإسلاميّة، برغم أنّ الرّجز كان ـ بحكم تنوّع قوافيه ـ يتيح نوعا من النظم الملحمي؟ أم إلى جهل العرب بالملاحم القديمة مثل الإلياذة والأوديسة، وصعوبة ترجمتها؟ هذا بالرّغم من أنّ ملحمة مثل "الشاهنامه" للفردوسي، كانت متيسّرة لهم سواء بالعربيّة أو الفارسيّة. ولكنّهم لم يلتفتوا إليها.

فهل يرجع الأمر إذن إلى "تقليد قوميّ" ترسّخ في هؤلاء العرب منذ الجاهليّة، وإلى إحساس بعظمة شعرهم، قد يكون صرفهم عن إنشاء الملحمة، رغم امتلاكهم لعناصرها اللازمة، على نحو ما نلمس في قصائد غير قليلة لأبي تمّام والمتنبّي وأبي فراس وابن هانئ، وإن كان من التمحّل عليها أن نعدّها ملاحم حقيقيّة؟

ومع ذلك فإنّه من مفارقات الأدب أو التّاريخ، أن يعرف أدبنا "الشّفوي" أشكالا ملحميّة مثل:"سيرة عنتر"[عنترة] التي يجدها البعض شبيهة، على نحو مثير، بـ"أغنية رولاند"Chanson de Roland،من حيث موضوع الفروسيّة والإحساس بعظمة أرض الأجداد، وهي عناصر أساسيّة في الملاحم المعروفة، أو سيرة بني هلال أو سيرة سيف بن ذي يزن.

ليست هناك تعليقات: