28‏/01‏/2013

المنزع العقلي عند أبي حيان التوحيدي



1 ( أسلوب التوحيدي و لغته :

أ-أسلوب التوحيدي: تجلّى احتفاء التوحيدي بالعقل في مستوى الأسلوب من خلال القرائن التالية :

****كثافة حضورالاستفهام و الأسئلة و المسامرات مثال (ما الحلم ؟ ما الحسد ؟ ما الشجاعة ؟ ماالرّغبة ....) و هو أسلوب ساهم في تأسيس ليالي الإمتاع و المؤانسة . يقول زكرياإبراهيم :" التوحيدي فيلسوف التساؤل , لأنّ لديه روحا تساؤلية تعشق الجدل و لا تكاد تكفّ عن إثارة السؤال تلو السؤال "
****حرص التوحيدي على التوسّع و الأطناب و التّنقيب و الاستقصاء و الشّرح المستفيض و التّفصيل للفكرة أوالمسالة الواحدة (حديث أبي حيّان عن النفس في الجزء الأوّل (
****التدقيق في بعض المسائل لنزع الشبهة و ضمان الدّقة : مثال لما سألها لوزير ابن سعدان عن الفرق بين تفعال ( التاء مكسورة ) و تفعال ( التاء مفتوحة ( فقال له التوحيدي " المصادر كلها على تفعال بفتح التّاء و انّما تجيء تفعال ( التاء مكسورة في الأسماء (
****تواتر أسلوب التعليل : فكثيرا ما يقدم التوحيدي الفكرة ثمّ يفصّل النظر فيها تفصيلاتعليليا.
مثال لما سألهالوزير " ما الفرق بين الإرادة و الحياة " قال أبو حيّان :" كلّ مراد مختار و ليس كلّ مختار مراد
****استعمال مفاهيم علمية و مصطلحات فلسفية و عبارات تجريدية .مثال : الرّوح- الحقيقة –الهيولي -الصّورة..
****أسلوب التّوليدالسّقراطي و ذلك من خلال الانتقال من البسيط البديهي إلى المعقّد المركّب و من خلالالانطلاق من معنى رئيسي ثمّ الشرح التفصيلي ,تسلسل الأفكار , توالدالأفكار...
**** تقريب المعنى بضرب الأمثال .

ب (لغة التوحيدي :

ترتبط لغةالتوحيدي ارتباطا وثيقا بشخصيته المتميّزة . فكما تميزت شخصية هذا المفكر شاع في أسلوبه الازدواج . فكتاب الإمتاع و المؤانسة تمرّد على أسلوبه الازدواجو التناقض. فكتاب الإمتاع و المؤانسة تمرّد على أسلوب السّجع و حافظ على توازن الجملة . يقول " الإنسان ذو قوّة متقاصرة و موانع معترضة ,و إنّه مع هذه الأحوال منتبه بالحسّ عالم بالعقل, عاشق للشاهد , ذاهل عن الغائب ...".
و قد استطاع التّوحيدي أن يتحرّر من تعسّف أساليب الفلاسفة و وضع أسلوبا متوازنا لم يجعل اللّفظ القصير فتسحر به عن المعنى العريض, فإنّ اللّفظ للعامة و المعنىللخاصة"
و هذا لا يعنيأنّه يستهين بدلالة الألفاظ بل إنه يحذّر في الاغترار باللّفظ الذي سيطر على لغةأدباء عصره و العصور القريبة منه.
لقد تحرّرالتوحيدي من قيد السّجع (المقامات-الرّسائل...) و عوّضه بالتوازن بين الفقرات و هوما أسماه النقاد القدامى بالسّجع المعطّل حيث يقسّم الفقرات إلى جمل قصيرة أشبه ماتكون بالأساليب الشعرية الحديثة يراعي في ذلك التنغيم اللّفظي . و هذا ما جعل لغته جسرا بين الشعر و النثر . و يقول " أحسن الكلام ما رقّ لفظه و لطف معناه و قامت صورته بين نظم كأنه نثر و نثر كأنّه نظم ".

ج (أنماط الكاتبة عند التوحيدي :
1 الحجاجي : تنوّعت المسارات الحجاجيّة التياعتمدها التّوحيدي في الإمتاع و المؤانسة و يمكن ذكر المسارات الحجاجيةالتالية:
أ -المسارالحجاجي البرهاني : و هو ضرب من الحجاج يقوم على البرهنة وفق انساق متعددة وهما النسق الاستنباطي( الانطلاق من العام إلى الخاص ) و النسق الاستقرائي (الانطلاقمن الخاص إلى العام(.
****مثال للحجاجالبرهاني الاستنباطي: انطلاق التوحيدي من فكرة الخلق الإلاهي عامّة ثم تدرّج إلىالتميّز الإلاهي للإنسان بالعقل لينتهي إلى المقارنة بين الإنسان و الحيوان . فيرىأنّ الإنسان مفضّل على الحيوان بالعقل لأنه يختار أفعاله بينما الحيوان ملهم غريزي .
****مثال للحجاجالبرهاني الاستقرائي: انطلاق التوحيدي من ظاهرة الاختلاف بين المذاهب ليتدرّج منهاإلى مظاهر أخرى في الاختلاف (الاختلاف في تفضيل الأمم و الرّجال و المال ...) ليخلصإلى قاعدة عامة جوهرها أنّ الاختلاف ظاهرة ملازمة للإنسان و لا يمكن بأي حال منالأحوال أن تزول .
ب - المسارالحجاجي القائم على العرض: و هو ضرب في الحجاج يقوم على عرض أطروحة ما فتحليلهاو التوسّع فيها. و من أمثلة ذلك :
****أطروحة شروطصلاح الدنيا ( نصّ متى تطيب الدنيا) : عرض التوحيدي الأطروحة ديوجانس التي تقرّبانّ صلاح الدنيا لا يتحقق الاّ بالتلازم بين الفلسفة و السلطة , ثمّ توسّع بالاستدلال عليها من عرض مجموعة من الحجج تدعم أطروحة ديوجانس و تؤكد حاجة السائسإلى الاستنارة بآراء العقلاء.
ج - المسارالحجاجي الحواري : و هو ضرب من الحجاج يقوم على عرض الرّأي و نقيضه و يتجلّىهذا النوع من الحجاج في المناظرات و المساجلات من ذلك:
****المناظرة بينكتابة البلاغة و الإنشاء من جهة و بين كتابة الحساب من جهة أخرى ( نصّ البلاغةوالحساب ) فهذه المناظرة أطرافها صاحب البلاغة ( التوحيدي) و صاحب الحساب (ابن عبيدالكاتب ) و هي مناظرة انتهت بالإنتصار للبلاغة و تفضيل الكتابة على الحساب .
**** المناظرة بين النثر و الشعر : هذه المناظرة أطرافها راو مناصرللنثر و التوحيدي ضمنيا و راو مناصر للشعر من جهة أخرى و التي انتهت بتفضيلالنثر.
****المناظرة بينالنّحو و المنطق و التي جرت بين مناصر النّحو أبي سعيد السّيرافي و مناصر المنطقمتّى بن يونس و التي انتهت إلى تفضيل النحو على المنطق في إشارة إلى أفضلية الثقافةالعربية على الثقافة اليونانية.
إن تنوّع مضامينالحجاج و مساراته من شأنه أن يولّد منطقيا تعدد الحجج و من أهمهانذكر:
--الحجّةالدينية
--الحجّةالواقعية
--الحجّةالتاريخية
--الحجّةالقولية
-- حجّةالمشابهة
-- حجّة الشاهدالقولي
-- حجّةالمنطق
و أمثلة هذهالحجج تزخر بها نصوص الإمتاع و المؤانسة.( أنظر النصوص المشروحة في حصص شرح النص( .
ملاحظة : أنواع الحجج على قدر كبير من التنوّع والتعدّد.
ب - الأسلوب التعليمي
لقد خضعت مسامرات الإمتاع والمؤانسة إلى جدلية الوزير السائل و التوحيدي المجيب . و هي جدلية تذكرنا ببنيةالحكاية المثالية في كتاب "كليلة و دمنة " أين نجد الملك دبلشيم يسأل و بيدياالفيلسوف يجيب و هذا ما أضفى على بعض المسامرات الطابع التعليمي و من العلاماتالدّالة على ذلك:
- توظيفالحكايات و الأمثلة لاستخلاص العبرة منها.
- تفرّدالتوحيدي بالإجابة مما يجعل كلامه مستفيضا طويلا ( عكس الحوار السّجالي ) و في ذلكإشارة إلى أن التوحيدي هو صاحب رسالة عليه أن يؤديها ( الإصلاح – الإرشاد (
-أسلوب التضمينو أسلوب متواتر في نصوص الإمتاع و ذلك لإيصال موقف و رأي التوحيدي مع تجنب المواجهةو الصّدام مع ابن سعدان .
- توظيف الحججالمتنوّعة لحمل الطرف الآخر على التراجع عن موقفه.
- تحوّل موقفابن سعدان و حالته من الجهل إلى العلم و ذلك في نهاية أغلب المسامرات .
يقول :" فقال (أي الوزير " :(ما كان عنديهذا كلّه".
-تواتر الأساليبالإنشائية ( الأمر-النهي-الاستفهام –التعجّب...) التي تضفي على النصّ طابعاتعليميا( النصح – التحذير-التوجيه (
"أماتعلم أن الرعية وديعة الله عند السلطان".
ج - الأسلوب السّردي : لقد جاءتالكثير من المسامرات شكلا من أشكال الكتابة النثرية المقصودة القائمة على الأسلوبالسردي . فقد هيّأ التوحيدي شروط النوع السردي فلم تكن المسامرات بعيدة الصلة عنتقاليد السرد القصصي في التراث السابق عليه. ذلك أنّ التوحيدي بدا متجاوبا مع (ألفليلة و ليلة ) و مع (كليلة ودمنة ) من زاوية وجود الحكاية الإطار التي يتولد منداخلها حكايات اقتضت بدورها تقسيم الليالي و ترتيبها. و قد تبين لنا كيف كانت عمليةاسترجاع التوحيدي لما دار بينه و بين ابن سعدان قائمة على السرد حتى أصبح هذا السردبدوره إطارا خارجيا للمحاورة أو بعبارة أخرى تولدت المحاورات في داخل السرد ثمّتولّدت المحاورة بعد ذلك من داخل المحاورة .
لقد تجاوبالتوحيدي مع تقاليد القصّ السّابقة من خلال توظيفه لبنية الخبر و ما يتأسس عليه منسند و متن على شاكلة أخبار الجاحظ و التي تتوفّر فيها مقومات السّرد من أطر وشخصيات و أحداث و تداخل في أنماط الكتابة (خبر ابن يوسف و خبر المعتضد مع ابنسليمان( وننبه إلى أسلوب السرد لا يخرج عن النزعة العقلية التي توخاها التوحيدي فيكتابة الإمتاع والمؤانسة فهذه الأخبار والحكايات هي بمثابة حجج واقعية تاريخيةلأطروحات ضمنية . مثال : خبر ابن يوسف يمكن أن يكون هذا الخبر حجة تدعم أطروحةضمنيةهي فساد العلاقة بين الحاكم والحاشية في بلاط السلطة.

د -الأسلوب الوصفي التسجيلي : يمكن اعتبار مسامرات الإمتاع و المؤانسة وصفا تسجيليا لأحوال مجتمع القرن الرابعللهجرة . يقول أحد النقاد :" و أيّا ما كان ,فالكتاب يلقي نورا كثيرا على العراق في النّصف الثاني من القرن الرّابع أعني في العصر البويهي".
فرسم الكتابلأحوال المجتمع جعل من صاحبه منخرطا في الواقع تصويرا و رسما . فالمؤانسة في كتابالإمتاع و المؤانسة ليست مؤانسة ممتعة فقط و إنما هي مؤانسة جادة . يقول زكرياإبراهيم :" تحدّدت شخصية أبي حيّان التوحيدي بثورته على أخلاق المجتمع الذي كان يعيش فيه و نقده لسائر الناس الذين كان يحيا معهم , و تمرّده على العصر الذي كان ينتسب إليه".
على أننا لا يجبأن نعتبر العديد من المسامرات وثائق تاريخية ( قصّة الفتنة ) بل هي عمل أديببالأساس لذلك يجب تخليص هذه المسامرات و كتاب الإمتاع و المؤانسة من وهم التاريخ والتعامل مع ما جاء فيها بإسقاط البعد التاريخي لأنّ التّوحيدي أديب و ليس مؤرخا و إنكانت مادة أدبه متصلة بالتاريخ و ذلك لعدة أسباب :
-موسوعية ثقافةالتوحيدي الملّمة بالكثير من المسائل و منها التاريخية.
-التوحيدي لايسعى إلى تأريخ الأحداث بقدر ما يسعى إلى النقد السياسي و الاجتماعي بطريقة أدبية, و الذي يؤكد هذا المنحى الأدبي عدّة قرائن :
**** خلو الكتاب من الأرقام و النسب و الموضوعيّة
****عدم البحثالعميق في الأسباب و النتائج.
****مزج السردالتاريخي بالوصف الانطباعي و الحوار مما يخرج الحديث عن طابعه التاريخي و يضفي عليهطابع المباشرة.


2 - مسائل متعلقةبالتوحيدي و فكره و أدبه :

-1 مركزية العقل في الإمتاع و المؤانسة :

احتل العقل فيمسامرات الإمتاع منزلة محورية باعتباره قطب الرّحى الذي تدور حوله جميع القضايا والمعارف . و هذا ما انتهى ببعض النقاد إلى اعتبار التوحيدي " أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء".
و هذه المنزلةالمحورية انتهت بأبي حيّان إلى عقلنة الأدب شكلا و مضمونا و هذا من شأنه أن يؤكدعلى:
أ‌- جدّية كتاب الإمتاع والمؤانسة : فقد تناولت مسامراتالكتاب قضايا جادّة و بروح نقدية تساؤلية توّاقّة إلى التغيير و إلى تخليص المعارفمن الوثوقيّة . و هذه الجدّية تؤكد غربة التوحيدي , فهو الجّاد في عصر الهزل و هوالعاقل في زمن أشباه العقلاء و هو المفكّر الحرّ في عالم التمهذب و هو اللاّمنتميفي زمن الفرق و الملل .
ب‌ - تحرير الأ ديب من أدب التّسلية والتكدّي إلى أدب السؤال و المساءلة و من أدب الصّنعة و البديع إلى أدب صياغة علامةالاستفهام .
يقول أحمد محمّدالحوفي:" كان أبو حيّان مكتبة جامعة لأكثر هذه الثقافة , خبير بالنّحو و اللّغة و الدب و الكلام و التصوّف و الفقه و الفلسفة....".
و كتاب الإمتاعيخاطب العقل قبل القلب و يحفّز إلى التفكير لا إلى الاستفادة السّلبية أو السهلة . و يقول أحد النقاد عن الإمتاع و المؤانسة " هو كتاب ممتع على الحقيقة لمن له مشاركة في فنون العلم , فانّه خاض في كلّ بحر و غاص في كل لجّة ."

خاتـمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــة

لميكن التوحيدي عالما بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى شامل كما أنّه لم يكن فيلسوفالأننا لا نستنتج من أثاره فلسفة أو مذهبا بل هو أديب و نحوي وفقيه و متكلّم أكثرمنه فيلسوف . فالتوحيدي إذن موسوعيّ يمثل أرقى ما وصلت إليه ثقافة الأديب في عصره , فقد شارك بأنواعها دون أن يتوغّل في أحداها فكانت له مزيّة التعبير عن عصر ازدهرفيه الفكر و نضجت فيه العقلية العربية و ارتقى الفنّ الكتابي .
و التوحيدي اطمأنّ إلى مرجعه الأكبر اطمئنانا كاملا و آمن به إيمانا تامّا. و هو العقل , فهوأداة سبر الأغوار و كشف المجهول و ميزان الحكم و معيار الحقيقة . و من ثمّ لم يكن مستغربا أن يصفه أي العقل بقوله" أن العقل هو الملك المفزوع اليه و الحكم المرجوعإليه , لديه من كلّ حال عارضة و أمر واقع عند حيرة الطّالب ......به ترتبط النّعمة وتستدفع النقمة و يستدام الوارد و يتألّف الشارد و يعرف الماضي و يقاس الآتي , شريعته الصدق و أمره المعروف و خاصّيته الاختيار و وزيره العلم و ظهيره الحلم و كنزهالرّفق و جنده الخيرات و حليته الإيمان و زينته التقوى و ثمرته اليقين

ليست هناك تعليقات: