30‏/01‏/2013

الشحاذ: بين الرواية الذهنية و تراجيديا البطل الواحد

لكي نفهم كيفية تعامل القارىء مع روايات نجيب محفوظ الذهنية حصرا ، فلابد من أن نتأمل أولا مكانة التخييل في بنائية و وظيفية صناعة أفق و أنزياحية  الملفوظ السردي هناك ، حيث نشاهد بأن البناء الروائي لدى محفوظ بحكم كونه تأليفا مرجعيا رغم وجود نفحة أحتمالية أشاراته المرحلية  المختلفة الى منظومة حركية دوال الواقع المتخيل ، و هكذا فأن القارىء يلاحظ بأن للأشارة الوثائقية و السياسية دورا بارزا في أبراز حيثيات الواقع  الموضوعي هناك و عبر أستدراكات عمليات التخييل الواقعية التي أخذت تشكل أبعادا ذهنية صعبة المراجعة و التدقيق و التقويم العابر ، لاسيما و أن النص  الروائي الذهني لدى محفوظ يبدو أنه قادم بحكم علائقية أنزياحات مرحلية و تقويمية من الوقائع المضمونية و الشكلية من بنائية النص الروائي .  ان الحديث عن أدب نجيب محفوظ بمثابة السفر الأسطوري تحت سقف أمتداد قرائي متين ، يجعل القارىء و دوال القراءة تبدو فعلا متحفزا و بشكل يتيح  للمتأمل المتلقي تدوين أنطباعاته النقدية و بشكل مغاير لحساسية التدوين السردي ذاته . في الواقع منذ زمن و أنا داخل دوامة متسلسلة من القراءات الروائية لنجيب محفوظ ، الى حين وجدت بداخلي ثمة ملاحظة أنطباعية حول عوالم
( تراجيديا البطل الواحد ) في مكونات نصوص نجيب الروائية ، و حين تسنى لي قراءة رواية ( بداية و نهاية ) و رواية ( الطريق ) و رواية ( ميرامار ) أكتشفت بأن هناك أشكالية ضخمة و كبيرة لوعينا النقدي الذي لم يتاح له التعرف عليها و بشكل يأخذ  هذه الظاهرة بمنظور مكافح أو أنتقادي لسلبيات طغيان
( تراجيديا البطل الواحد ) فروايات نجيب محفوظ تعرض للقارىء دائما واقع الحارات و الشخوص و الأحقاب التأريخية المصرية من باب و من حدود أختفاء و غياب وجهة النظر الجماعية و العمل المشترك في صناعة و توليد ذروة الحدث الدرامي العام ، فمثلا لاحظنا بأن الجوانب الفكرية و السلوكية لدى الأفراد العادية في روايات محفوظ ، تكون دائما أسيرة ظاهرة و سلوك تفرد ( البطل الواحد ) أو بألاحرى أن صح التعبير الشخصية المركزية في الرواية و الى درجة صارت هذه الظاهرة مألوفة جدا و حتى في أجواء السينما المصرية ، حيث نلاحظ تسيد على أحداث و شخوص الفلم بما يسمى ( النجم الواحد ) و هذه الظاهرة مع الأسف لم يلتفت اليها النقاد المصريين و العرب بمنظور المعالجة الجادة . أي بمعنى أن النقاد لم يتعاملوا مع هذه المحورية المركزية من زاوية عادلة من حيث وجود باقي الشخوص إزاء فرعونية شخصية البطولة الدرامية ، في حين تبقى باقي شخوص الرواية مجرد ديكورات أو قطعة أثاث داخل أحداث النص الروائي المحفوظي ، من هنا نلاحظ بأن الوعي بظاهرة الشخصية المحورية و فعل طغيانها على باقي شخوص الرواية ، تأخذ لها أمتدادا كبيرا داخل مساحة أزمنة و أحداث كل روايات نجيب محفوظ و بشكل قاطع .

                ( البطل الواحد و حركة الشخوص )

أن هيمنة وعي و سلوك البطل الواحد على باقي حركات و وجدانات الشخوص الروائية ، تترك أثرا سلبيا كبيرا على نمو أحداث الرواية ذاتها ، حيث نرى بأن شخصية البطل دائما هي ثمرة أنتصارات سياسية و مالية و أجتماعية و عاطفية ، أما الأخرى فهي عادة ما تكون أسفل الدرج تطحنهم مشكلات و هزائم أجتماعية و أقتصادية و أحباطات عاطفية أليمة ، و الواقع أن شخوص محفوظ و في غالب رواياته يتميزون عن أشخاصه في المرحلة الروائية الأجتماعية ، و ذلك لأن سقف مرحلة الرواية الذهنية هي من أكبر مراحل محورية البطل الواحد أذ نجد شخصا واحدا فيها يقوم بتمثيل و تجسيد محور كل الحداث و الشخوص و كافة بقية متعلقات مصائر الأفراد في الرواية . و لكننا أذا نظرنا الى هذه الروايات من حيث مجموع شخوصها ، فأننا نشاهد تحديدا بأن رواية ( الطريق ) تختلف بعض الأختلاف عن رواية ( الشحاذ ) و رواية
( اللص و الكلاب ) و رواية ( ميرامار ) فأهم الشخوص في رواية ( اللص و الكلاب ) بعد شخصية سعيد مهران هم الطفلة سناء و نبوية و الصحفي رؤوف علوان و الشيخ علي الجندي و المومس نور ، و لكن المواجهة الأساسية نراها تقع في حدود خط محورية سعيد مهران و رفيقه المرتد رؤوف علوان ، أما في رواية ( الشحاذ ) نشاهد أن أهم الشخوص بعد شخصية عمر الحمزاوي هم الصحفي مصطفى و الثائر عثمان ثم الزوجة و الأبناء و الراقصة وردة ممثلة الجنس و مثيرة الشبق لدى الرجال ، و تقع المواجهة الرئيسية كذلك بين خط عمر الحمزاوي و الآخر الثانوي مصطفى المنياوي . لعل القارىء يلاحظ مدى هيمنة شخصية البطل الواحد في الرواية الذهنية المحفوظية ، و لدرجة أصبحنا كقراء نعتاد على رؤية الشخصية المحورية و هي وحدها التي تتمتع بالجاه و الحب من قبل عشيقة ما أو راقصة خارج حدود اللياقة الأجتماعية و التربوية لتلك الشخصية المحورية . أن معاينة الأحداث في هذه الروايات التي حددناها بشيء من التفصيل و الكشف و عن حجم العلاقات الداخلية هناك ما بين الشخوص و خصوصا بين ( اللص و الكلاب ) و رواية
( الشحاذ ) حيث نرى بأن شخصية البطل الواحد و هو سعيد مهران أول من تظهر في الرواية و آخر من ينتهي ، و الأمر كذلك في رواية ( اللص و الكلاب ) ، و القارىء لعله أيضا يلاحظ حجم هذه الشخصية و مدى أهتمامها و أهميتها على باقي مستوى أحداث الرواية ماضيا و مستقبلا ، و في رواية
( الشحاذ ) نشاهد بأن عمر الحمزاوي ينتظر دوره في قاعة استقبال في عيادة أحدى الأطباء ثم يكون آخر من  يتكلم و يشير الى مدى مهاراته  الخاصة في فهم الناس و الأشياء و حتى في مجال الطب و العلوم التقنية المعاصرة ، في حين أن عمر الحمزاوي هو رجل ليس له غير التحصيل التعليمي الفج من تجارب الحارة و أهل المقاهي المصرية . و هكذا نتأكد من أن رواية ( اللص و الكلاب ) و رواية ( الشحاذ ) و روايات أخرى ما هي ألا مؤشرات لتسيد و سيطرة الرجل الواحد .

           ( البنية السردية و سيرة الأشياء )

أن الرحلة الطويلة التي قطعها نجيب محفوظ في تشريح الجسد النصي الروائي قد أزالت من لديه ذلك الحياد في العرض لمضمون سيرة الأشياء روائيا . و كذلك فأن الجدية الموضوعية لديه قد أضحت فعلا أنحيازيا في أستعراض اللصوص و الثوار و البغايا و رجال الدين و السياسة و الأدباء على كفة واحدة من المعيارية الأبرازية . ثم و بالتالي التخفي وراء أقنعة البطل الواحد و وراء مسيرة المخيلة و اللهجة العامية التي لا تحسن أحيانا وصف دقة الأشياء و ضرورتها التعبيرية ، فمثلا في رواية ( الحرافيش ) كان لابد لنجيب محفوظ من أن يتقمص ذلك الميراث الطويل للأنبياء و الأولياء ليرويه على شكل تضميني و تجسيدي و بمحورية تأريخية من سيرة الشخوص و الأمكنة الوثائقية كما هو الحال في رواية ( أولاد حارتنا ) و هذه الأنعطافات من سيرة الأشياء و الشخوص لربما لها مكانة خاصة في عرض المشهدية السردية في صنع الأحداث ، فمثلا نعاين رواية
( أولاد حارتنا ) حيث أخذت تعكس من جهة بعيدة قدرة الوعي الفني في الوصول الى أنسجامات سيرية و فكرية هامة من صياغة حدوس الشخوص ضمن مجال قراءة التحولات التأريخية الكبرى في تأريخ مصر السياسي و الأجتماعي . أما في رواية ( الحرافيش ) فلا نجد هناك ثمة أستحضار لأثر تأريخي أو سياسي أو ثقافي حتى ، فقط نلاحظ وجود عائلة المحور الأول أو البطل الواحد و هي عائلة ( عاشور الناجي)
حيث تسليط الأضواء على مسيرة تحولات الأشياء من خلالها و حركة سيرة الشخوص بمنظور البطل عاشور الناجي نفسه ، أن الحركة السردية الحكائية في ( ملحمة الحرافيش ) تذكرنا بالسرد السيري في مذكرات أبطال الحكاية الخرافية في الأدب الشعبي ، حيث أن البطل الواحد من خلالها يظهر كما لو أنه يمتلك جناحان من الغيبية و السحرية في نبوءة معرفة الغوامض و أمزجة طباع الآخرين من الشخوص ، في حين أن عاشور الناجي كان في سيرورته السيرية أنسانا لقيطا أنقذه أنسان بسيط و تثقف منه من أحد شخوص الرواية ، على حين غرة نلاحظ بأن نجيب محفوظ يمنح هذه الشخصية المحورية ثمة مؤهلات و سمات خارقة للعادة ، فمثلا يحدس عاشور الناجي هجوم الوباء على الحارة المصرية ، حيث يترتب على الناس ضرورة الهجرة منها ، ثم بعد ذلك قاد الحارة حرفوشا من حرافيشها . أن الحارة و بمفهومها السيري و الجذوري في رواية ( الحرافيش ) تقدم شخصية مغايرة للعادة التي هي بلا مؤهلات حقيقية للبروز و السيطرة ، بل هي أنتاج تراكم عرقي من الأبطال الذين هم حرافيش في هذه العائلة العاشورية ،بل أن القارىء يرى بأن مفهوم البطل الواحد و مسمى الحارة المصرية ، قد أضحت مجرد زخارف و شكليات غير متجوهرة داخل حدود المشهد الروائي و بشكل جدي و جاد ، بل أن هذه السمات التي يتصف بها البطل الواحد لربما هي إيهامات مخيالية خارج حدود مشهدية واقع الزمان و المكان في الحارة المصرية ، أن جوهر الحارة يمكن أن نراه كذلك في رواية ( أولاد حارتنا ) حيث هذا الضرب من الوعي اللاتأريخي بشخصية البطل الواحد و مواصفات مفهوم الحارة و الذي بات علامة جدلية بين المشهد السردي و بين منطقة سيرة الأشياء ، أن تأملية محفوظ المركزة على مفهوم الحارة و البطل الواحد ، لربما تتحول الى حركة ذهنية غير مبررة في نموذج البطل المتجوهر في حركة الشخوص الأخرى و في علاقات جذرية المظاهر الأجتماعية في بنية الرواية الذهنية .

           ( القارىء و جغرافية النص المحفوظي )

أن الشخصية المركزية التي هي منتمية للفئات الوسطى أي تلك الشخصية التي تكون دائما باحثة عن حلول نهضوية لمعضلتي التحرر و التقدم ، و هذا النوع من الشخصيات ذات البطل الواحد تمتاز داخل مرحلة كتابية خاصة من زمن النص الروائي لدى محفوظ ، و بدءا من رواية ( الكرنك ) و رواية ( حب تحت المطر ) و رواية ( القاهرة الجديدة ) حيث نشاهد بأن بطل رواية ( القاهرة الجديدة ) محجوب عبد الدايم هو من يكشف السلبي الذي ينبغي تجاوزه أجتماعيا و سياسيا ، و هذه الطريقة الفنية التي يتبعها نجيب محفوظ في مكونات هذا البطل الواحد ، هي نموذج مركزي في التغلغل التصويري داخل واقع في جانبه الحكومي و التصويري الواحد ، و خلاصة سلوكية هذا البطل أنه نموذج محوري يحاول معالجة الأشياء بدوافع وجدانية و سلوكيات من يمتلك الأخلاق الرفيعة و المثالية دائما . لهذا فأن القارىء لهذه الرواية يلاحظ بأن معظم مشاهد و لقطات النص السردي تبقى داخل جملة حدوثات دلالية عامة من بنية علاقة شخصية البطل الواحد إزاء شظايا ذلك الواقع السياسي و بكل دلالاته الشخوصية الأخرى المفقودة و المهمشة . و خلاصة القول أخيرا : أن نجيب محفوظ في كتابته للرواية الذهنية أتبع أساسا مفهوم البطل الواحد و صورية معالم الحارة المصرية حيث الموضوع و الشكل معا و دون محورية أصوات و وجوه الشخوص الأخرى في الموضوع الروائي ، بل أن البطل الواحد في رواية محفوظ الذهنية يشكل خليط زمني و موضوعي في البناء المشهدي . و نجيب محفوظ من الروائيين الذين أبتعدوا عن مقولات ( آلان روب ) حيث كان يقول بضرورة ألغاء دور الحكاية في الرواية ، و بالتالي فأنه يشدد على أن الرواية يجب أن لا تحتوي على أي شخصية أو بالأحرى على أي بطل ، و أن وجد ذلك البطل فلا أهمية له و أنما هو شيء من الأشياء ، فنجد إزاء هذا نجيب محفوظ قد مال ميلا واضحا نحو تكثيف الوجود الشخوصي في شخصية البطل الواحد و الى حد جعل الرواية الذهنية لديه تبدو بأكملها تقوم على كاهل شخصية محورية واحدة ، بل أن البناء العضوي للرواية لديه قد أبتعد عن عضوية الشخوص الأخرى و لغة الأشياء و الأشخاص الأحادية ، كما أن الرواية تبقى لدى نجيب محفوظ هي موضوع الرواية ذاتها . و زيادة على كلام مقالنا هذا حول روايات نجيب محفوظ ذات البطل الواحد ، أجدني ميال و منذ زمن بعيد الى تسجيل هذه الوجهة النظر الشخصية من لدن طرف كاتب هذا المقال الأنطباعي ، حيث أقول بادىء ذي بدء و من خلال سقف قراءاتي الروائية لنجيب محفوظ ، أكتشفت بأن نجيب محفوظ خير ما يصلح له هو أن يكون كاتبا يكتب في مجال الدراما التلفزيونية و السينمائية كمثال اسامة أنور عكاشة و مصطفى محرم ، لأن غالب ما قد كتبه نجيب محفوظ من نصوص روائية هي ليست ضمن التصنيف السردي للرواية الأدبية و بقدر ما هي لا تتعدى أن تكون نصوص درامية أفضل لها أن تكون معروضة على شاشة تلفاز من من زمن القراءة و على شكل
( متلقي / نص ) و هذا الشيء بدوره يعود الى أن معظم الحوارات و الأوصاف لدى محفوظ قد جاءت أحيانا باللهجة العامية و بعيدا عن اللغة الفصحى الواصفة بدقة و الأكثر جمالية ، بل أن هناك حالات و مواقف في روايات محفوظ كانت بحاجة ماسة الى لغة مجازات و أستعارات بعيدة ، في حين وجدناها اللغة العامية في سياقات محفوظ الوصفية فقيرة و شاحبة و دون أية روح معبرة و واصفة بشكل يساعد على تحفيز الصور المشهدية : فأن على يقين بأن لو كان يوسف أدريس كاتبا لتلك النصوص التي كتبها محفوظ ، لكان أكثر أبداعا و جدية أدبيا ، و لكن من حسن حظ محفوظ أنه لم يظهر في زمن عبد الرحمن منيف و جبرا إبراهيم جبرا و روائيين آخرين ، و لأنه أيضا قد برز في زمن الأستعمار و ظروف حاجات الفرد المصري الواقعي اليومي الساذجة . فأنا أكرر ما قد قلته و مسؤول أيضا عن كلامي هذا أن كان هناك معارض ما لكلامي بأن نجيب محفوظ لم يكتب الرواية الأدبية يوما ما ، و بكافة مقوماتها البنائية و السردية و الأدبية الكاملة ، بل أنه كتب نصوص حكواتية درامية باللهجة العامية من الأفضل لها أن تكون على شكل حلقات مسلسل تلفزيوني يعرض على نساء البيوت حين أفراغهن من أعمال الطهو و من مشاغل ترويض أطفالهن الصغار الى حين نومهم . لذا أقول أخيرا و بتصميم قاطع . بأن نجيب محفوظ و في بعض رواياته كان صانعا دراميا جيدا لأعمال تلفزيونية و سينمائية و ليس كاتبا روائيا بارز لأدب روائي مقروء . 
                                                    حيدرعبد الرضا

ليست هناك تعليقات: