30‏/01‏/2013

المقومات القصصية في الشحاذ


ملخص:
يدرس هذا البحث العناصر القصصية في رواية "الشحاذ" لنجيب محفوظ، و هي آخر قصصه ورواياته في المرحلة الفلسفية الرمزية. و العناصر المكونة لها هي : سرد الأحداث، الشخصيات، البيئة، الفكرة، الحبكة و مقوماتها من البداية : التضارب و التعارض، القلق و الحيرة و التشويق، الأزمة، الذروة، و انحلال العقدة. كما أنه يحاول أن يلقي الأضواء علي البناء الرمزي في هذه الرواية من رمزية الشخصيات، ‌و رمزية عنوان الرواية، ثم التوظيف الفني للطبيعة عند نجيب محفوظ في هذه الرواية. كذلك يتناول المنحي الصوفي الذي عالجه فيها نجيب محفوظ، ثم لغتها و أسلوبها، و أخيرا يشرح ما تأثر به نجيب محفوظ من الأدب الغربي في خلق هذا الأثر الأدبي.

تمهيد:
لقد كان نشوء الرواية في الأدب العربي مواكبا لبداية عصر النهضة الحديثة، و ذلك لاتصال العرب الوثيق بالغرب حيث مرت الرواية بطور الترجمة فالإقتباس فالوضع، حتي استقرت في مسلسلات.
و يرجع الفضل في ظهور الرواية إلى الصحافة و الترجمة، كما يرجع الفضل في إرساء قواعد الفن الروائي و القصصي إلى سليم البستاني، و جرجي زيدان، و فرح أنطوان، ثم تبعهم جبران خليل جبران، و طه حسين، و توفيق الحكيم، و محمود تيمور، و المازني؛ أما النهضة الحقيقية للرواية فكانت علي يد جيل تخرّج من الجامعات المصرية أمثال علي أحمد باكثير، و عبدالحميد جودة السحار، و يوسف السباعي، و نجيب محفوظ.1
ولد الروائي المصري الكبير نجيب محفوظ في القاهرة سنة 1911م. و بدأ حياته الأدبية في العشرين من عمره. و نال جائزه نوبل في الآداب عام 1988م. عندما اختار نجيب محفوظ في الثلاثينات أن يتفرّع للتعبير الروائي كانت الساحة العربية خالية من التراث الروائي حجماً وقيمةً، إذ لم يسبقه في هذا المجال سوي عدد قليل ذكرناهم آنفا؛ فمهّد نجيب محفوظ بجهده لفن الرواية والقصة، و بفضله أصبحت الرواية من فنون الأدب العربية الهامة مقبولة و مقروءة علي المستوي العالمي. استمرّ محفوظ في محاولاته لتمهيد فن الرواية العربية و تأصيلها و توسيع نطاقها بحيث تستوعب أشكالا فنية جديدة لم يعرفها هذا الأدب بصورة واضحة من قبل. وقد تعرّف محفوظ علي فن الرواية الغربية من خلال قراءاته الواسعة، إلا أنه لم يعتمد في أعماله البناء الغربي، إذ كان يكتب بلغة عربية، و يعيش في بلد عربي له حضارته و قيمه و عاداته العربية.
قد مرّ نجيب محفوظ علي خمس مراحل في كتاباته2:
1- المرحلة التاريخية أو الرومانسية الواقعية : ومن آثاره في هذه المرحلة، عبث الأقدار، رادوبيس، كفاح طيبة. (1935- 1938)
2- المرحلة الواقعية الإجتماعية : ومن آثارها فيها، القاهرة الجديدة، خان الخليلي، زقاق المدق، بداية و نهاية، السراب، و الثلاثية.( 1939- 1952)
3- المرحلة الواقعية الفلسفية ( الرمزية ) : و من آثاره فيها، أولاد حارتنا، اللص و الكلاب، السمان و الخريف، الطريق، و الشحاذ. (1952 - 1965)
4- مرحلة مرافقة القضايا الفلسفية مع القضايا الإجتماعية: و من آثاره فيها، ثرثرة فوق النيل، ميرامار.
( 1965 - 1967)
5- مرحلة الحوارات الإستدلالية العقلية : و من آثاره فيها، خمارة القط الأسود، و ما بعدها. ( 1968 - ...)
رواية الشحاذ هي آخر قصة كتبها نجيب محفوظ في المرحلة الثالثة . و تمتاز قصصه في هذه المرحلة بميزيتين : الإحساس بالخواء و الرمزية، إضافة إلى الناحية الفلسفية؛ فإن الكبت و الخفقان الذي ساد المجتمع المصري قد دفع الكتاب المصريين إلى استخدام الرمز للتعبير عن آرائهم.
اصطبغت قصص نجيب محفوظ في الستينات بأسلوب تيار الوعي الذي استخدمه" جميس جويس و ويرجينيا ولف " في قصصهما؛ و ذلك يمتلئ بالتعبيرات الرمزية. و في هذه المرحلة يعجز أبطال قصص محفوظ عن إدراك فلسفة الكون، و يفتقدون الإيمان بالله فيجتاحهم القلق و الإضطراب، فالحياة تصبح لهم عبثا بلا معني. فهذه القصص تستهدف إلى هدفين : البحث عن القوة السحرية المجهولة (الله) لتمنح الحياة معني و غاية؛ و دراسة أسرار الكون و الكشف عنها، بينما يرافق هذين الهدفين القلق و الإضطراب و الترديد دائما.
و نحن نكون بصدد أن ندرس في هذه المقالة العناصر القصصية في رواية الشحاذ و أن نلقي ضوءا نقديا علي بناءها الفني. فالرواية هذه تشتمل علي كل العناصر المشترکة بين الفنون الأدبية. فمثلا نجد فيها سيطرة اليأس و التشاؤم و الحيرة، كما نجد فيها عاطفة الأمل و الثورة و الحماس. كذلك نجد فيها الخيال، و يتمثل هو في رسم لوحات فنية جميلة تتجلّي إما في مخيلة بطل القصة، و إما مستمدة من واقع الحياة.
و يتکشف للقارئ بعد قراءة هذه القصة الجميلة، كيف نجح نجيب محفوظ في الجمع بين العناصر الشعرية و العناصر النثرية، و أخرجها في صورة رائعة يستمتع بها القارئ

العناصر القصصية
تتكون كل قصة و رواية من أجزاء و عناصر لا بدّ من وجودها لكي تظهر القصة إلى الوجود، و هي :
1- الحكاية ( سرد الأحداث)
يبدأ القصة عندما يذهب عمر الحمزاوي إلى عيادة صديقه الطبيب حامد صبري و يشكو إحساسا انتابه و دفعه إلى الضجر من كل شيء، من زينب زوجته، من العمل، و من كل ما تحاط به حياته. لقد أخذ يتأمل حياته و هو أفاق بعد عمي ربع قرن؛ و مثلما انتکس حماسه الثوري، انتكست أيضا مشاعره تجاه زينب، إذ أصبحت نموذجا للمطبخ و الإمتلاء و الدسم و أيضا للضجر و الملل. و قد أدت حياته معها إلى تحوّله عن انقلاب الثائر و المتطلع إلى سر الوجود إلى" محام ثري في المواد الدهنية ".3 فترة حبه لزينب و حماسه للإرتباط بها عاصرت جانب الثورة في نفسه ، ذلك الجانب النقي الذي دفعه إلى حب الشعر حيث كان يستنطق أصدق مشاعره. فالثائر فيـه هو الذي فجّر ملكة الشعر. و عندما انقلب إلى النقيض اتخذ المسار نفسه تجاه زينب، إذ قال في حديث" يا إلهي! إنهما شيء واحد: زينب و العمل، و الداء الذي زهدني في العمل هو الذي يزهدني في زينب، و هي القوة الكامنة وراء العمل، هي رمزه ، هي المال، و النجاح ، و الثراء، و أخيرا المرض. و لأنني أتقزز من كل أولئك فأنا أتقزز من نفسي، أو لأنني أتقزز من نفسي فأنا أتقزز من كل أولئك".4
و قد كان تشحيص الطبيب لمرض عمر الحمزاوي بأنه" مرض بورجوازي "؛5 و قد عدّه ظاهرة طبيعية لأبناء البورجوازية، و أن القلق و التوتر يعدان سمة ملازمة لأبناء هذه الطبقة، و هو يوضّح هذا لعمر قائلا:" دعني أصف لك حياتك كما أستنبط من الكشف، أنت رجل ناجح ثري، نسيت المشي أو كدت، تأكل فاخر الطعام، و تشرب الخمور الجيدة، و ترهق نفسك بالعمل لحد الإرهاق، و دماغك دائما مشغول بقضايا الناس و أملاكك. أخذ القلق يساورك علي مستقبل عملك و مسير أموالك".6
بدأ عمر الحمزاوي حياته ثوريا، و كان من الطلائع الذين يحلمون بالمدينة الفاضلة، و يتفجرون حماسا للثورة، و يشتعلون رغبة في الحياة الإنسانية التي يسودها العدل و المساواة تحت ظل الإشتراكية و يعلمون لتحقيقه. و قد انسحبت روح الثورة عن حياة عمر الشخصية، إذ تزوج غير تقليدي، فقد أحب كامليا فؤاد و هي من مدرسة الراهبات. و قد قرر الزواج منها بعد أن غير اسمها إلى زينب و كان يشاركه في طريق الثورة صديقاه ( عثمان خليل و مصطفي المنياوي ) فانطلقوا جميعا بروح الحماس و الثورة و الحلم بالمدينه الفاضلة. و في منتصف طريق الجهاد و بعد تدبيرهم لقتل احدي الشخصيات المناوئة للقوي الثورية يتمَ القبض علي عثمان خليل و يستطيع الآخرون الفرار. و عندئذ تطوي صفحة الجهاد، إذ يقبع عثمان خليل خلف أسوار السبحن دافعاً سنوات من عمره في الدفاع عن عقيدته، صامداً علي التعذيب ألا يدل علي زميليه. و اتجه عمرالحمزاوي إلى العمل في المحاماة و هجر الفن و الشعر، و آمن من خلال ممارسته العملية للحياة بأنه لا مكان للفن الصادق فيها، و أن الفن مجرد لهو و تسلية في عصر سيطر فيه العلم علي الحياة سيطرة تامة، بينما نجد مصطفي المنياوي قد ارتد من طريق الفن الجاد و أخذ يکتب مسرحيات لتقدّمها فِرَق الطليعة المسرحية، ثم اتجه إلى ميدان الفن للتسلية. الفن بلا مضمون جادّ. و قد شبّه هو نفسه ببائع اللب و الفُشار و كافة أدوات التسلية في الصحافة و الإذاعة و التلفزيون. فقد يكتب بقلمه دون ايمان شخصي بما يكتب. فقال لعمر:" العلم لم يبق شيئا للفن، ستجد في العلم لذة الشعر و نشوة الدين و طموح الفلسفة. صدّ قني لم يبق للفن إلا التسلية. و سينتهي يوما بان يصير حلية نسائية مما يستعمل في شهر العسل ... إقرأ أي كتاب في الفلك أو في الطبيعة أو في أي علم من العلوم و تذكّر ما تشاء من المسرحيات أو دواوين الشعر ثم اختبر بدقة إحساس الخجل الذي سيجتاحك ".7
و لما عاد عمر من عيادة الطبيب إلى بيته، و رأي هناک صديقه مصطفي المنياوي واقفاً بجانب زينب و بثينة و جميلة، و كيف أنهم يترقبون مجيئه قلقين. فسأله مصطفي و زينب عن المرض، فأجابهما عمر لا شيء؛ فسّرت زينب بهذا الخبر. و لكن قلق عمر الحمزاوي كان أخطر من هذا القلق الذي قال به الطبيب و الذي عدّه ظاهرة طبيعية، لأنه صدر عن معاناة البحث عن نفسه الضائعة،إذأفاق فجأة بعد عشرين عاما، و أدرك أن كل ما حققه، لم يستطع أن يعوّضه من فقد ذاته الحقيقية، تلك الذات التي فُقِدَت يوم تخلّي من عقيدته و نبت الثورة في نفسه. فترك ذاته، و بدأ يلهث للحصول علي أفضل مظاهر الحياة؛ فكان يركب الكا ديلاك، و يسكن بيتا كبيرا، و يأكل فاخر الطعام، و يبتعد بنفسه عن مخاطر طريق الثورة. فآثر السلامة، و ابتعد عن ذلك الطريق المهفوف بالمخاطر و القلق. و كان ثمن هذا هو حبس روحه في مجال تنفّسها الحقيقي. و قد شبهها هو نفسه قائلاك:" و حبست الروح في برطمان قَذِر كأنها جنين مجهض".8 فقد أجهض حماسه الثوري و انطلق في طريق آخر. فانفجرإحساسه بضياع حياته، عندما رأي الآخرين يتأملون في لحظات تحقيق أمل في الحياة أو كسب موقف ما. قد شدّ هذا بدوره في نفسه الإحساس بالخواء و عدم تحقيقه شيئا في الحياة. و في حوار جري بينه و بين أحد موكليه نجد تاكيدا لهذه الفكرة، إذ يقول له الرجل:" أنا ممتن يا اكسلانس، أنت محيط بتفاصيل الموضوع بدرجة مذهلة حقيقة باسمک الكبير، و أن عملي في کسب القضية لعظيم ".9 فضحك بسرور بين و قد شعر عمرالحمزاوي بغيظ شديد، ثم قال:" تصوّرأن تكسب القضية اليوم و تمتلک الأرض، ثم تستولي عليها الحكومة غدا ".10 فهز رأسه في استهانة، و قال:" المهم أن نكسب القضية ألسنا نعيش حياتنا و نحن نعلم أن الله سيأخذها ".11 فاستسلم عمر بوجاه منطقه، و لكن ذهل رأسه بدوار مفاجئ و اختفي كل شيء ... ".12 و هذا الحوار ذكّر بعمر بأنه لا يعيش حياته، و أنه ربما يموت دون أن يحقق كيانه کانسان و وجوده كفرد، فسقط في حضن النقيض الذي كان يحاربه. و قد تلقّي هذا الإحساس من حديث جري بين رجل و امراة يسمع لهما عمر الحمزاوي.
فقال الرجل :
- عزيزتي! نحن منحدرون إلى خطر مؤكد.
فقالت المراة :
- هذا يعني أنك لا تحبني.
- لكنك تعلمين تماما أني أحبك.
- إذا تكلمت بعقل، فهذا يعني أنك لم تعد تحبني.
- ألا ترين أنني مسئوول و أنني جاوزت الشباب.
- قل إنك لم تعد تحبني.
- سوف نهلك معا و نخرب بيتنا ...
- ألا تكفّ عن المواعظك
- لك زوجك و بناتك، و لي زوجتي و أبنائي ...
- ألم أقل لك أنك لم تعد تحبنيك
- و لكنني أحبک.
- إذن فلا تذكرني بغيرالحب.13
و موقف المرأة يتسم بالتضحية مع الإستهانة بجسامة النتائج المترتبة علي تمسّكها بحبها تماما كصاحب القضية الذي لا يهمه سوي كسبها. و لهذا يكون تعليق الحمزاوي عقب هذا الموقف" أن أيام الجهاد لم تعدّ إلا ذكريات منحطة ".14 و أثناء هذا الضجر و في كل اللحظات كانت تبرز ذكري عثمان خليل الذي يتمثل في ذهنه دائما ثائرا قويا يضرب أروع الأمثلة علي القوة و الجلد، بينما هو انطلق إلى طريق السعادة و تضخيم الثروة. و هنا تزداد رغبته في الفرار من هذا الواقع، و ينتابه إحساس بالرغبة في إيقاع العقاب علي النفس. علي أنه كان يطمئن إلى عاطفة الضمير لديه عن طريق المساعدات المادية التي كان يقدمها لوالدي عثمان خليل حتي آخر حياتهما. مع هذا أنه لم يستطع أن يخمد صوت رفض الواقع في نفسه، فكان يتصور في مخيلته دائما صورة عثمان خليل، و ذلك يقوّي لديه الرغبة في الهروب من الواقع، و كأنه لا يريد أن يخرج عثمان، و يري أن هذه المكاسب الضخمة التي حققها الحمزاوي في حياته، و في غفلة عن هذا الثوري. فأخذ هو نفسه في تحطيمها بيده، ظنّاً بأن هذا العمل يريح ضميره. لذلك هجر زينب، رمز العمل و النجاح و الثراء و أخيرا الضجر عن كل ذلك، و انطلق في طريق الجنس، و تقلّب في علاقات جنسية متعددة. فأول امراة تعرّف إليها هي مارجريت، راقصة في ملهي يازبك ( الباريس الجديدة )، و قد تعرّف إليها عن طريق صديقه مصطفي الذي قال لها بأن صديقه عمر أصيب بداء طريف في الأيام الأخيرة، و هو يبحث عن الجمال علاجا لدائه، و هي داؤه الوحيد. فقضي معها عمر ليال، إلى أن تركته مارجريت و سافرت فجاة إلى خارج القطر.




و كانت علاقته الثانية بِ" وردة "التي كانت طالبة بمعهد التمثيل غير ناجح في السينما، و لكن كانت بارعة في الرقص، فتألقت في كابري. و قد هجرت بيتها علي رغم أن أمها و عمّها العجوز و أخوالها منعوها من الدخول في معهد التمثيل. و قد اقترحها يازبك علي عمر، ظنّاً بأنها تناسبه للزواج. و عندما رأها عمر، عشقها و أراد الزواج منها. و قد شهد مكتبه زيارات كثيرة من خاله" حسين كرم " و أخته الوحيدة، ضرعا إليه ألاّ يتزوج من الراقصة، و لكنه دافع عن سعادته بكل قواه، و رأي" النشوة هي اليقين ".15 و في هذه الأيام أخبره مصطفي بأن زينب مرهقة بالحبلي، و أنه يخشي عليها أن تهجر البيت يوما؛ لكنّ عمر لم يهمّه شيء من هذه الأقوال، فهجر البيت نهائيا، و رآه الحلّ الوحيد، فعاش مع وردة في شقة، و هي أحبته لحدّ الجنون، و كان عمر يشعر بأنه آدم في الجنة. فأحسّ أن الشعر الذي تركه في أيام الشباب يتحرک من جديد في أعماقه، إلاّ أن مسرّته مع وردة لم تلبث أن زالت، إذ أنه شاهد من جديد مارجريت فوق المسرح في باريس الجديدة، فرغب فيها، فاعتذر ليلة لوردة و لم يدر كيف يعتذر لها في الليلة التالية. و استمرت العلاقة بينه و بين مارجريت حتي فهمت وردة بوجود العلاقة بينهما، فتركته هي أولا ثم مارجريت بعدها، لأن عمر كان يغامرها في الطرق و لا يذهب بها إلى البيت، و قد استاءت هي من مغامرات الطرق. فأصبح بعد ذلك يذهب كل ليلة بامرأة من هذا الملهي أو ذلك أو حتي من الطريق حيث صار أكبر زير النساء.
و قد حرص أثناء هذه العلاقات علي إهمال عمله و عدم اختفاء هذه العلاقات، و كأنه يسعي إلى تلوبث سمعته. و كان ذلك إمعانا في تحطيم نفسه و هدمها.
و اتخاذ هذه الطريقة من جانبه کان محاولة منه في البحث عن وجوده إلا أنه لم يجد فيها ما يشبع روحه الظامئة. و قد اكتشف له أن نشوة الجنس أقصر من أن تدوم و أنها أقصر من أن تردّ إليه ذاته. و لهذا قرر أن يهرب إلى طريق جديد يظنه هو طريق البحث عن الحقيقة.
و القلق دائما يجتاح فكره و عالمه الفكري، و يدفعه إلى الهروب من الواقع و اللجوء إلى العبث و التخيلات اللامعقول، فيتخيل" أنه استحوذ علي قوة سحرية، و راح يستعملها في تسلية الناس، فكان يخفي في غمضة عينٍ دار الأوبرا حتي يتجمع الناس ذاهلين، ثم يعيدها في غمضة عينٍ حتي يتصايح الناس من الذهول ".16 و يتمادي في تخيلات البعث التي تبعد به عن منطق الواقع الذي يرفضه، و يتخيل نفسه" يرقص فوق قمة الهرم أو يقتحم الهيلتون عارياً، أو يقفز من أعلي جسر إلى قاع النيل ".17 فهو يريد الخلاص من إطارعمرالحمزاوي، المحامي الناجح إلى أي شيء يناقض هذه الصورة. فكان يمعن في هروبه من الواقع، إذ أنه لم يحقق بعدُ هذه الرغبة الهروبية بصورة كاملة، لأن يقترب من نشوة الحقيقة. فانطلق نحو الصحراء،" فوقف في ظلمة غريبة كثيفة بلا ضوء انساني واحد. لا يذكر أنه رأي منظرا مثل هذا من قبل. فقد اختفت الأرض و الفراغ، و وقف هو مفقودا تماما في السواد ... وهبّ الهواء جافا لطيفا منعشا موحدا بين أجزاء الكون. و بعدد رمال الصحراء التي أخفاها الظلام، انكتمت همسات أجيال، أجيال من الآلام و الآمال والأسئلة الضائعة ".18 و عندئذ تمتلئ نفسه بالإنفعال، فيقول " و قد يتغير كل شيء إذا نطق الصمت و ها أنا أضرع إلى الصمت أن ينطق، و إلى حبة الرمل أن تطلق قواها الکامنة، و أن تحررني من قضبان عجزي المرهق. و ما يمنعني من الصراخ إلاّ انعدام ما يرجع الصدي. و أسند جسمه إلى السيارة، و نظر نحو الأفق، و أطال و أمعن النظر. و ثمّة تغير جذب البصر. رقّ الظلام و انبثّت فيه شفافية. و تكوّن خطّ في بطء شديد، و مضي ينضح بلون وضيء عجيب... فانبعثت دفقات من البهجة و الضياء و النعسان. و فجأة رقص القلب بفرحة ثملة، و اجتاح السرور مخاوفه و أحزانه ... و شملته سعادة غامرة جنونية آسرة، و طرب رقصت له الكائنات في أربعة أركان المأمورة... و أظلّه يقين عجيب ذوثقل يقطر منه السلام و الطمأنينة ... و ترامت الدنيا تحت قدميه حفنة من التراب ... و لبث يلهث و يتقلّب في النشوة ... و شعر بدبيب آتٍ من بعيد، من أعماق نفسه. دبيب إفاقة ينذرها بالهبوط إلى الأرض. عبثاً حاول دفعه أو تجنّبه أو تأخيره. راسخ كالقدر، خفيف كالثعلب، ساخر کالموت. تنهد من الأعماق، و استقبل موجات من الحزن، و أفاق و الضياء يضحك ".19
و في هذه الصحراء تمثلت له لحظة التحول، و أنه اكتشف طريقا جديدا للبحث عن الحقيقة، و الهروب من إيذاء الواقع و إيقاع العقاب علي النفس، خاصة أن هذا القرار قد اتخذه بعد خروج عثمان من السجن، و كأنه لم يرد أن يراه عثمان متمتعا بحياة الترف، بينما هو محبوس بين جدران السجن. فقرر أن يترك مكانه لعثمان حيث عرض عليه أن يحلّ محلّه في مكتب المحاماة ناوياً من وراء ذلك أن يعوّضه ببعض ما فاته، كما قرّر أن يترک کل هذه المظاهر ذاهبا إلى كوخ صغير يبغي فيه تلک اللحظة الفاتنة التي عاشها في الصحراء، و حتي لا يشارک عثمان في أي من مظاهر الحياة التي أصبح يرفضها. و يبدو أنه اتجه نحو التصوف انتقاما من سنين ترف التي عاشها، فاستغرق في سبحات التصوف، و بني لنفسه عالما تسوده خيالات يحكمها منطق غير منطق الواقع. و هناك و في كوخه الأسطوري في تلک الصحراء حيث تكمن حقيقة كل شيء في اللاشيء، و حيث تاقت نفسه إلى لحظة التحرر الكامل، لا تفارقه أنياب الواقع المدببة لحظة واحدة. فإذا ابنه سيمر- و هو قطعة لحم حمراء بعدُ - يحمل رأس عثمان خليل، و يطارد أباه مطاردة عنيفة حتي ينطرح علي الأرض إعياءً، فيسمع الصفصافة تترنم ببيت من الشعر، و اقتربت منه بقرة قائلة له أنها سوف تتوقف عن درّ اللبن لتتعلم الكيماء. و زحفت حية رقطاء ثم بصقت أنيابها و راحت ترقص في مرح. و انتصب الثعلب حارسا للدجاج، و اجتمعت جوقة من الخنافس و غنّت أغنية ملائكية ... أما العقرب فتصدّت له في لباس ممرضة. و ما أشبه ذلك الحلم العجيب بتلك اللحظة الفاتنة التي وقفها ليلا في تلك الظلمة العجيبة. ثم يأتي إليه عثمان خليل، و يخبره أنه قد تزوّج من بثينة ابنتة التي كانت تحفظ الشعر و تكتبه، و هي التي أخذت عن أييها سرّ الوجود بقراءة ديوانه دون أن تاخذ مرضه، و أنها تنتظر من عثمان ولدا. فعليه أن يعود لأن عثمان يطارده الشرطة و حتما سيتمّ القبض عليه، و يعاد إلى السجن.
و أثناء مطاردة الشرطه لعثمان خليل يصاب عمر الحمزاوي برصاصة في ترقوته، و هي كانت بمثابة الصدمة الكهربائية التي يفيق المريض بعدها، و كأنها أصابت غيبوبته فشفي منها. و قد أفاق من خيالاته، و وجد لنفسه طريقا جديدا يرضي عنه، و يرضي روح المناضل القديم في نفسه، إذ عليه أن يرعي ابن بثينة من عثمان، و أن يحيي طريق عثمان و يسلكها عن طريق ذلك الإبن و كذلك ابنه سمير الذي تخيله" يثب إلى الأرض متخذاً من رأس عثمان رأسا له ".20 و لهذا فهو عندما سمع صوت الشرطه قال بعد القبض علي عثمان" ... انتهي .... قُبِضَ عليه .... و انتهي كل شيء. يهمس في أعماقه، و يقول:" ليس لشيء نهاية ".21 فخامره شعور بأن قلبه ينبض في الواقع لا في الحلم، و بأنه رجع إلى الدنيا حقيقة، فوجد نفسه يتذكر بيتا في وعيه بوضوح عجيب:" إن تكن تريدني حقا فَلِمَ هجرتنيك".22


.

ليست هناك تعليقات: